فصل: الجزء الثاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


الجزء الثاني

سورة آل عمران

مدنية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ‏(‏2‏)‏ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ ‏(‏3‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى ‏{‏الم اللَّهُ‏}‏ قال الكلبي والربيع بن أنس وغيرهما‏:‏ نزلت هذه الآيات في وفد نجران وكانوا ستين راكبا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، وفي الأربعة عشر ثلاثة نفر يؤول إليهم أمرهم‏:‏ العاقب‏:‏ أمير القوم وصاحب مشورتهم، الذي لا يصدرون إلا عن رأيه، واسمه عبد المسيح، والسيد‏:‏ ثمالهم وصاحب رحلهم واسمه الأيهم وأبو حارثة بن علقمة أسقفهم وحبرهم‏.‏

دخلوا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى العصر، عليهم ثياب الحِبَرات جبب وأردية في جمال رجال بلحارث بن كعب، يقول من رآهم‏:‏ ما رأينا وفدا مثلهم، وقد حانت صلاتهم فقاموا للصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏دعوهم‏"‏ فصلوا إلى المشرق، فسلم السيد والعاقب فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏أسلِما‏"‏ قالا أسلمنا قبلك قال ‏"‏كذبتما يمنعكما من الإسلام ادعاؤكما لله ولدا وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير‏"‏ قالا إن لم يكن عيسى ولدا لله فمن يكن أبوه‏؟‏ وخاصموه جميعا في عيسى، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه‏"‏‏؟‏ قالوا بلى قال‏:‏ ‏"‏ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يحفظه ويرزقه‏"‏ قالوا‏:‏ بلى، قال‏:‏ ‏"‏فهل يملك عيسى من ذلك شيئا‏؟‏ ‏"‏ قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ ‏"‏ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء‏؟‏ ‏"‏ قالوا‏:‏ بلى، قال‏:‏ ‏"‏فهل يعلم عيسى عن ذلك شيئا إلا ما عُلِّم‏؟‏ ‏"‏ قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ ‏"‏فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء وربنا ليس بذي صورة وليس له مثل وربنا لا يأكل ولا يشرب‏"‏ قالوا‏:‏ بلى، قال‏:‏ ‏"‏ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غذي كما يغذى الصبي ثم كان يطعم ويشرب ويحدث‏؟‏ ‏"‏، قالوا‏:‏ بلى قال‏:‏ ‏"‏فكيف يكون هذا كما زعمتم‏؟‏ ‏"‏ فسكتوا، فأنزل الله تعالى صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها‏.‏

فقال عز من قائل ‏{‏الم اللَّهُ‏}‏ مفتوح الميم، موصول عند العامة، وإنما فتح الميم لالتقاء الساكنين حرك إلى أخف الحركات وقرأ أبو يوسف ويعقوب بن خليفة الأعشى عن أبي بكر ‏{‏الم الله‏}‏ مقطوعا سكن الميم على نية الوقف ثم قطع الهمزة للابتداء وأجراه على لغة من يقطع ألف الوصل‏.‏

قوله تعالى ‏{‏اللَّهُ‏}‏ ابتداء وما بعده خبر، والحي القيوم نعت له‏.‏

‏{‏نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ‏}‏ أي القرآن ‏{‏بِالْحَقِّ‏}‏ بالصدق ‏{‏مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ لما قبله من الكتب في التوحيد والنبوات والأخبار وبعض الشرائع ‏{‏وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ‏}‏ وإنما قال‏:‏ وأنزل التوراة والإنجيل لأن التوراة والإنجيل أنزلا جملة واحدة، وقال في القرآن ‏"‏نزل‏"‏ لأنه نزل مفصلا والتنزيل للتكثير، والتوراة قال البصريون‏:‏ أصلها وَوْرية على وزن فوعلة مثل‏:‏ دوحلة وحوقلة، فحولت الواو الأولى تاءً وجعلت الياء المفتوحة ألفا فصارت توراة، ثم كتبت بالياء على أصل الكلمة، وقال الكوفيون‏:‏ أصلها تفعلة مثل توصية وتوفية فقلبت الياء ألفا على لغة طيء فإنهم يقولون للجارية جاراة، وللتوصية توصاة، وأصلها من قولهم‏:‏ ورى الزند إذا خرجت ناره، وأوريته أنا، قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ أفرأيتم النار التي تورون ‏"‏ الواقعة- 71‏)‏ فسمي التوراة لأنها نور وضياء، قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ وضياء وذكرى للمتقين ‏"‏ الأنبياء- 48‏)‏ وقيل هي من التوراة وهي كتمان السر والتعريض بغيره، وكان أكثر التوراة معاريض من غير تصريح‏.‏

والإنجيل‏:‏ إفعيل من النجل وهو الخروج ومنه سمي الولد نجلا لخروجه، فسمي الإنجيل به لأن الله تعالى أخرج به دارسا من الحق عافيا، ويقال‏:‏ هو من النَّجَل وهو سعة العين، سمي به لأنه أنزل سعة لهم ونورا، وقيل‏:‏ التوراة بالعبرانية تور، وتور معناه الشريعة، والإنجيل بالسريانية أنقليون ومعناه الإكليل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 6‏]‏

‏{‏مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ‏(‏4‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ ‏(‏5‏)‏ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏6‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُدًى لِلنَّاسِ‏}‏ هاديًا لمن تبعه ولم يثنِّه لأنه مصدر ‏{‏وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ‏}‏ المفرق بين الحق والباطل، وقال السدي‏:‏ في الآية تقديم وتأخير تقديرها وأنزل التوراة والإنجيل والفرقان هدى للناس‏.‏

قوله تعالى ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّه عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ‏}‏‏.‏

‏{‏هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ‏}‏ ذكرا أو أنثى، أبيض أو أسود، حسنا أو قبيحا، تاما أو ناقصا، ‏{‏لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيمُ‏}‏ وهذا في الرد على وفد نجران من النصارى، حيث قالوا‏:‏ عيسى ولد الله، فكأنه يقول‏:‏ كيف يكون لله ولد وقد صوره الله تعالى في الرحم‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أبو محمد عبد الرحيم بن أحمد بن محمد الأنصاري، أنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، أنا علي بن الجعد، أنا أبو خيثمة زهير بن معاوية، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، قال‏:‏ سمعت عبد الله بن مسعود يقول‏:‏ حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق ‏"‏إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه الملك‏"‏ أو قال‏:‏ ‏"‏يبعث إليه الملك بأربع كلمات فيكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينها وبينه غير ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينها وبينه غير ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها‏"‏‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني، أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي، أنا أبو أحمد بن عيسى الجلودي، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان، أنا مسلم بن الحجاج، أنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا سفيان بن عيينه، عن عمرو بن دينار، عن أبي الطفيل، عن حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة وأربعين ليلة فيقول‏:‏ يا رب أشقي أو سعيد‏؟‏ فيكتب ذلك فيقول‏:‏ يا رب أذكر أم أنثى‏؟‏ فيكتبان، ويكتب عمله وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ ‏(‏7‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى ‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْه آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ‏}‏ مبينات مفصلات، سميت محكمات من الإحكام، كأنه أحكمها فمنع الخلق من التصرف فيها لظهورها ووضوح معناها ‏{‏هُنَّ أُمّ الْكِتَابِ‏}‏ أي أصله الذي يعمل عليه في الأحكام وإنما قال‏:‏ ‏{‏هُنَّ أُمّ الْكِتَابِ‏}‏ ولم يقل أمهات الكتاب لأن الآيات كلها في تكاملها واجتماعها كالآية الواحدة، وكلام الله واحد وقيل‏:‏ معناه كل آية منهن أم الكتاب كما قال‏:‏ ‏"‏ وجعلنا ابن مريم وأمه آية ‏"‏ ‏(‏50- المؤمنون‏)‏ أي كل واحد منهما آية ‏{‏وَأُخَرُ‏}‏ جمع أخرى ولم يصرفه لأنه معدول عن الآخر، مثل‏:‏ عمر وزفر ‏{‏مُتَشَابِهَاتٌ‏}‏ فإن قيل كيف فرق هاهنا بين المحكم والمتشابه وقد جعل كل القرآن محكما في مواضع أخر‏؟‏‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏ الر كتاب أحكمت آياته ‏"‏ ‏(‏1- هود‏)‏ وجعله كله متشابها في موضع آخر فقال‏:‏ ‏"‏الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها ‏"‏ ‏(‏23- الزمر‏)‏‏.‏

قيل‏:‏ حيث جعل الكل محكما، أراد أن الكل حق ليس فيه عبث ولا هزل، وحيث جعل الكل متشابها أراد أن بعضه يشبه بعضا في الحق والصدق وفي الحسن وجعل هاهنا بعضه محكما وبعضه متشابها‏.‏

واختلف العلماء فيهما فقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ المحكمات هن الآيات الثلاث في سورة الأنعام ‏"‏ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ‏"‏ ‏(‏151‏)‏ ونظيرها في بني إسرائيل ‏"‏ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ‏"‏ ‏(‏23- الإسراء‏)‏ الآيات وعنه أنه قال‏:‏ المتشابهات حروف التهجي في أوائل السور‏.‏

وقال مجاهد وعكرمة‏:‏ المحكم ما فيه من الحلال والحرام وما سوى ذلك متشابه يشبه بعضه بعضا في الحق ويصدق بعضه بعضا، كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وما يضل به إلا الفاسقين ‏"‏ ‏(‏26- البقرة‏)‏ ‏"‏ ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون ‏"‏ ‏(‏100- يونس‏)‏‏.‏

وقال قتادة والضحاك والسدي‏:‏ المحكم الناسخ الذي يعمل به، والمشتابه المنسوخ الذي يؤمن به ولا يعمل به‏.‏ وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ محكمات القرآن ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به، والمتشابهات منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به، وقيل‏:‏ المحكمات ما أوقف الله الخلق على معناه والمتشابه ما استأثر الله تعالى بعلمه لا سبيل لأحد إلى علمه، نحو الخبر عن أشراط الساعة من خروج الدجال، ونزول عيسى عليه السلام، وطلوع الشمس من مغربها، وقيام الساعة وفناء الدنيا‏.‏

وقال محمد بن جعفر بن الزبير‏:‏ المحكم ما لا يحتمل من التأويل غير وجه واحد والمتشابه ما احتمل أوجها‏.‏

وقيل‏:‏ المحكم ما يعرف معناه وتكون حججها واضحة ودلائلها لائحة لا تشتبه، والمتشابه هو الذي يدرك علمه بالنظر، ولا يعرف العوام تفصيل الحق فيه من الباطل‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ المحكم ما يستقل بنفسه في المعنى والمتشابه ما لا يستقل بنفسه إلا بردِّه إلى غيره‏.‏

قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية باذان المتشابه حروف التهجي في أوائل السور، وذلك أن رهطا من اليهود منهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظراؤهما، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له حيي‏:‏ بلغنا أنه أنزل عليك ‏{‏الم‏}‏ فننشدك الله أنزلت عليك‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏ قال‏:‏ فإن كان ذلك حقا فإني أعلم مدة ملك أمتك، هي إحدى وسبعون سنة فهل أنزل غيرها‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم ‏{‏المص‏}‏ ‏"‏ قال‏:‏ فهذه أكثر هي إحدى وستون ومائة سنة، قال‏:‏ فهل غيرها‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم ‏{‏الر‏}‏ ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ هذه أكثر هي مائتان وإحدى وسبعون سنة ولقد خلطت علينا فلا ندري أبكثيره نأخذ أم بقليله ونحن ممن لا يؤمن بهذا فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْه آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمّ الْكِتَابِ وَأُخَر مُتَشَابِهَاتٌ‏}‏‏.‏

‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم ْزَيْغٌ‏}‏ أي ميل عن الحق وقيل شك ‏{‏فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ‏}‏ واختلفوا في المعنيِّ بهذه الآية‏.‏ قال الربيع‏:‏ هم وفد نجران خاصموا النبي صلى الله عليه وسلم في عيسى عليه السلام، وقالوا له‏:‏ ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏بلى‏"‏ قالوا‏:‏ حسبنا، فأنزل الله هذه الآية‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ هم اليهود طلبوا علم أجل هذه الأمة واستخراجها بحساب الجمَّل‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ هم المنافقون وقال الحسن‏:‏ هم الخوارج، وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم ْزَيْغٌ‏}‏ قال‏:‏ إن لم يكونوا الحرورية والسبأية فلا أدري من هم، وقيل‏:‏ هم جميع المبتدعة‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عبد الله بن مسلمة، أنا يزيد بن إبراهيم التستري، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنهما قالت‏:‏ تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْه آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمّ الْكِتَابِ وَأُخَر مُتَشَابِهَاتٌ‏}‏- إلى قوله ‏{‏أُولُو الألْبَابِ‏}‏ قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم ‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ‏}‏ طلب الشرك قاله الربيع والسدي، وقال مجاهد‏:‏ ابتغاء الشبهات واللبس ليضلوا بها جهالهم ‏{‏وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ‏}‏ تفسيره وعلمه، دليله قوله تعالى ‏"‏ سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ‏"‏ ‏(‏78- الكهف‏)‏ وقيل‏:‏ ابتغاؤه عاقبته، وهو طلب أجل هذه الأمة من حساب الجمل، دليله قوله تعالى ‏"‏ ذلك خير وأحسن تأويلا ‏"‏ ‏(‏35- الإسراء‏)‏ أي عاقبة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَعْلَم تَأْوِيلَه إِلا اللَّه وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ‏}‏ اختلف العلماء في نظم هذه الآية فقال قوم‏:‏ الواو في قوله والراسخون واو العطف يعني‏:‏ أن تأويل المتشابه يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم وهم مع علمهم ‏{‏يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ‏}‏ وهذا قول مجاهد والربيع، وعلى هذا يكون قوله ‏"‏يقولون‏"‏ حالا معناه‏:‏ والراسخون في العلم قائلين آمنا به، هذا كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى ‏"‏ ‏(‏7- الحشر‏)‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم ‏"‏ ‏(‏8- الحشر‏)‏ إلى أن قال‏:‏ ‏"‏ والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم ‏"‏ ‏(‏9- الحشر‏)‏ ثم قال ‏"‏ والذين جاءوا من بعدهم ‏"‏ ‏(‏10- الحشر‏)‏ وهذا عطف على ما سبق، ثم قال‏:‏ ‏"‏ يقولون ربنا اغفر لنا ‏"‏ ‏(‏10- الحشر‏)‏ يعني هم مع استحقاقهم الفيء يقولون ربنا اغفر لنا، أي قائلين على الحال‏.‏

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول في هذه الآية‏:‏ أنا من الراسخين في العلم، وروي عن مجاهد‏:‏ أنا ممن يعلم تأويله‏.‏

وذهب الأكثرون إلى أن الواو في قوله ‏"‏والراسخون‏"‏ واو الاستئناف، وتم الكلام عند قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يَعْلَم تَأْوِيلَه إِلا اللَّهُ‏}‏ وهو قول أبي بن كعب وعائشة وعروة بن الزبير رضي الله عنهم ورواية طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما، وبه قال الحسن وأكثر التابعين واختاره الكسائي والفراء والأخفش، وقالوا‏:‏ لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله ويجوز أن يكون للقرآن تأويل استأثر الله بعلمه لم يطلع عليه أحدا من خلقه كما استأثر بعلم الساعة، ووقت طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدجال، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام ونحوها، والخلق متعبدون في المتشابه بالإيمان به وفي المحكم بالإيمان به والعمل، ومما يصدِّق ذلك قراءة عبد الله إنْ تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به، وفي حرف أُبي‏:‏ ويقول الراسخون في العلم آمنا به‏.‏

وقال عمر بن عبد العزيز‏:‏ في هذه الآية انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا آمنا به كل من عند ربنا‏.‏ وهذا قول أقيس في العربية وأشبه بظاهر الآية‏.‏

قوله تعالى ‏{‏وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ‏}‏ أي الداخلون في العلم هم الذين أتقنوا علمهم بحيث لا يدخل في معرفتهم شك، وأصله من رسوخ الشيء في الشيء وهو ثبوته يقال‏:‏ رسخ الإيمان في قلب فلان يرسخ رسخا ورسوخا وقيل‏:‏ الراسخون في العلم علماء مؤمني أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام

وأصحابه دليله قوله تعالى ‏"‏ لكن الراسخون في العلم منهم ‏"‏ ‏(‏162- النساء‏)‏ يعني المدارسين علم التوراة وسئل مالك بن أنس رضي الله عنه عن الراسخين في العلم قال‏:‏ العالم العامل بما علم المتبع له وقيل‏:‏ الراسخ في العلم من وجد في علمه أربعة أشياء‏:‏ التقوى بينه وبين الله، والتواضع بينه وبين الخلق، والزهد بينه وبين الدنيا، والمجاهدة بينه وبين نفسه‏.‏

وقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد والسدي‏:‏ بقولهم آمنا به سماهم الله تعالى راسخين في العلم، فرسوخهم في العلم قولهم‏:‏ آمنا به، أي بالمتشابه ‏{‏كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا‏}‏ المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ وما علمنا وما لم نعلم ‏{‏وَمَا يَذَّكَّرُ‏}‏ وما يتعظ بما في القرآن ‏{‏إِلا أُولُو الألْبَابِ‏}‏ ذوو العقول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ‏(‏8‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى ‏{‏رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا‏}‏ أي ويقول الراسخون‏:‏ ربنا لا تزغ قلوبنا أي لا تملْها عن الحق والهدى كما أزغت قلوب الذين في قلوبهم زيغ ‏{‏بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا‏}‏ وفقتنا لدينك والإيمان بالمحكم والمتشابه من كتابك ‏{‏وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ‏}‏ أعطنا من عندك ‏{‏رَحْمَةً‏}‏ توفيقا وتثبيتا للذي نحن عليه من الإيمان والهدى، وقال الضحاك‏:‏ تجاوزًا ومغفرة ‏{‏إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ‏}‏‏.‏

أخبرنا أبو الفرج المظفر بن إسماعيل التميمي، أنا أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي، أنا أبو أحمد بن عدي الحافظ، أنا أبو بكر بن عبد الرحمن بن القاسم القرشي يعرف بابن الرواس الكبير بدمشق، أنا أبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر الغساني، أنا صدقة، أنا عبد الرحمن بن زيد بن جابر، حدثني بشر بن عبيد الله قال‏:‏ سمعت أبا إدريس الخولاني يقول‏:‏ حدثني النواس بن سمعان الكلابي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، إذا شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه‏"‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، والميزان بيد الرحمن يرفع قوما ويضع آخرين إلى يوم القيامة‏"‏‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، حدثنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أنا حاجب بن أحمد الطوسي، أنا عبد الرحيم بن منيب، أنا يزيد بن هارون، أنا سعيد بن إياس الجُريري عن غنيم بن قيس عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مثل القلب كريشة بأرض فلاة تقلبها الرياح ظهرا لبطن‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 12‏]‏

‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ‏(‏9‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ‏(‏10‏)‏ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏11‏)‏ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏12‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِع النَّاسِ لِيَوْمٍ‏}‏ أي لقضاء يوم، وقيل‏:‏ اللام بمعنى في، أي في يوم ‏{‏لا رَيْبَ فِيهِ‏}‏ أي لا شك فيه، وهو يوم القيامة ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِف الْمِيعَادَ‏}‏ مفعال من الوعد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ‏}‏ لن تنفع ولن تدفع ‏{‏عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ‏}‏ قال الكلبي‏:‏ من عذاب الله، وقال أبو عبيدة من بمعنى عند، أي عند الله ‏{‏شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُود النَّارِ‏}‏‏.‏

‏{‏كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة ومجاهد‏:‏ كفعل آل فرعون وصنيعهم في الكفر والتكذيب، وقال عطاء والكسائي وأبو عبيدة‏:‏ كسنة آل فرعون، وقال الأخفش‏:‏ كأمر آل فرعون وشأنهم، وقال النضر بن شميل‏:‏ كعادة آل فرعون، يريد عادة هؤلاء الكفار في تكذيب الرسول وجحود الحق كعادة آل فرعون، ‏{‏وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ كفار الأمم الماضية؛ مثل عاد وثمود وغيرهم ‏{‏كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُم اللَّهُ‏}‏ فعاقبهم الله ‏{‏بِذُنُوبِهِمْ‏}‏ وقيل نظم الآية‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ‏}‏ عند حلول النقمة والعقوبة مثل آل فرعون وكفار الأمم الخالية أخذناهم فلن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم ‏{‏وَاللَّه شَدِيد الْعِقَابِ‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ‏}‏ قرأ حمزة والكسائي بالياء فيهما، أي أنهم يغلبون ويحشرون، وقرأ الآخرون بالتاء فيهما، على الخطاب، أي‏:‏ قل لهم‏:‏ أنكم ستغلبون وتحشرون‏.‏ قال مقاتل‏:‏ أراد مشركي مكة معناه‏:‏ قل لكفار مكة‏:‏ ستغلبون يوم بدر وتحشرون إلى جهنم في الآخرة، فلما نزلت هذه الآية قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ‏"‏إن الله غالبكم وحاشركم إلى جهنم‏"‏‏.‏

وقال بعضهم المراد بهذه الآية‏:‏ اليهود، وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ إن يهود أهل المدينة قالوا لما هزم رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين يوم بدر‏:‏ هذا- والله- النبي الذي بشَّرَنا به موسى لا ترد له راية، وأرادوا اتباعه، ثم قال بعضهم لبعض‏:‏ لا تعجلوا حتى تنظروا إلى وقعة أخرى، فلما كان يوم أحد ونكب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوا فغلب عليهم الشقاء، فلم يسلموا، وقد كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى مدة فنقضوا ذلك العهد وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا إلى مكة ليستفزهم، فأجمعوا أمرهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية‏.‏

وقال محمد بن إسحاق عن رجاله ورواه سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا‏:‏ أنه لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا ببدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال‏:‏ ‏"‏يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر وأسلِموا قبل أن ينزل بكم مثل ما نزل بهم فقد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم‏"‏ فقالوا‏:‏ يا محمد لا يغرنك أنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة وإنا والله لو قاتلناك لعرفت أنا نحن الناس، فأنزل الله تعالى ‏{‏قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ‏}‏ تهزمون ‏{‏وَتُحْشَرُونَ‏}‏ في الآخرة ‏{‏إِلَى جَهَنَّمَ‏}‏ ‏{‏وَبِئْسَ الْمِهَادُ‏}‏ الفراش، أي بئس ما مهد لهم يعني النار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ ‏(‏13‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ‏}‏ ولم يقل قد كانت لكم، والآية مؤنثة لأنه ردها إلى البيان أي قد كان لكم بيان، فذهب إلى المعنى‏.‏

وقال الفراء‏:‏ إنما ذُكِّرَ لأنه حالت الصفة بين الفعل والاسم المؤنث، فذكر الفعل وكل ما جاء من هذا النحو فهذا وجهه، فمعنى الآية‏:‏ قد كان لكم آية أي عبرة ودلالة على صدق ما أقول أنكم ستغلبون‏.‏ ‏{‏فِي فِئَتَيْنِ‏}‏ فرقتين وأصلها فيء الحرب لأن بعضهم يفيء إلى بعض ‏{‏الْتَقَتَا‏}‏ يوم بدر ‏{‏فِئَةٌ تُقَاتِل فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ طاعة الله وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا سبعة وسبعون رجلا من المهاجرين، ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار، وصاحب راية المهاجرين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة، وكان فيهم سبعون بعيرا وفرسان فرس للمقداد بن عمرو وفرس لمرثد بن أبي مرثد وأكثرهم رجّاله وكان معهم من السلاح ستة أدرع وثمانية سيوف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُخْرَى كَافِرَةٌ‏}‏ أي فرقة أخرى كافرة وهم مشركو مكة وكانوا تسعمائة وخمسين رجلا من المقاتلة رأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وفيهم مائة فرس وكانت حرب بدر أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ‏}‏ قرأ أهل المدينة ويعقوب بالتاء يعني ترون يا معشر اليهود أهل مكة مثلي المسلمين وذلك أن جماعة من اليهود كانوا حضروا قتال بدر لينظروا على من تكون الدائرة فرأوا المشركين مثلي عدد المسلمين ورأوا النصرة مع ذلك للمسلمين فكان ذلك معجزة وآية، وقرأ الآخرون بالياء، واختلفوا في وجهه‏:‏ فجعل بعضهم الرؤية للمسلمين ثم له تأويلان أحدهما يرى المسلمون المشركين مثليهم كما هم، فإن قيل‏:‏ كيف قال‏:‏ مثليهم وهم كانوا ثلاثة أمثالهم‏؟‏ قيل‏:‏ هذا مثل قول الرجل وعنده درهم أنا أحتاج إلى مثلي هذا الدرهم يعني إلى مثليه سواه فيكون ثلاثة دراهم والتأويل الثاني- وهو الأصح- كان المسلمون يرون المشركين مثلي عدد أنفسهم، قلَّلهم الله تعالى في أعينهم حتى رأوهم ستمائة وستة وعشرين ثم قللهم الله في أعينهم في حالة أخرى حتى رأوهم مثل عدد أنفسهم‏.‏ قال ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا‏.‏ ثم قللهم الله تعالى أيضا في أعينهم حتى رأوهم عددًا يسيرًا أقل من أنفسهم قال ابن مسعود رضي الله عنه حتى قلت لرجل إلى جنبي‏:‏ تراهم سبعين‏؟‏ قال‏:‏ أراهم مائة قال بعضهم‏:‏ الرؤية راجعة إلى المشركين يعني يرى المشركون المسلمين مثليهم قللهم الله قبل القتال في أعين المشركين ليجترئ المشركون عليهم ولا ينصرفوا فلما أخذوا في القتال كثرهم الله في أعين المشركين ليجبنوا وقللهم في أعين المؤمنين ليجترؤوا فذلك قوله تعالى ‏"‏ وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ‏"‏ ‏(‏44- الأنفال‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَأْيَ الْعَيْنِ‏}‏ أي في رأي العين نصب بنزع حرف الصنعة ‏{‏وَاللَّه يُؤَيِّد بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ‏}‏ الذي ذكرت ‏{‏لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ‏}‏ لذوي العقول، وقيل لمن أبصر الجمعين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ‏(‏14‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبّ الشَّهَوَاتِ‏}‏ جمع شهوة وهي ما تدعو النفس إليه ‏{‏مِنَ النِّسَاءِ‏}‏‏.‏

بدأ بهن لأنهن حبائل الشيطان ‏{‏وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ‏}‏ جمع قنطار واختلفوا فيه فقال الربيع بن أنس‏:‏ القنطار المال الكثير بعضه على بعض، وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه‏:‏ القنطار ألف ومائتا أوقية وقال ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك ألف ومائتا مثقال‏.‏ وعنهما رواية أخرى اثنا عشر ألف درهم وألف دينار دية أحدكم، وعن الحسن القنطار دية أحدكم، وقال سعيد بن جبير وعكرمة‏:‏ هو مائة ألف ومائة مَنٍّ ومائة رطل ومائة مثقال ومائة درهم، ولقد جاء الإسلام يوم جاء وبمكة مائة رجل قد قنطروا، وقال سعيد بن المسيب وقتادة‏:‏ ثمانون ألفا، وقال مجاهد سبعون ألفا، وعن السدي قال‏:‏ أربعة آلاف مثقال، وقال الحكم‏:‏ القنطار ما بين السماء والأرض من مال، وقال أبو نضرة‏:‏ ملء مسك ثور ذهبا أو فضة‏.‏

وسمي قنطارا من الإحكام، يقال‏:‏ قنطرت الشيء إذا أحكمته، ومنه سميت القنطرة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الْمُقَنْطَرَةِ‏}‏ قال الضحاك‏:‏ المحصنة المحكمة، وقال قتادة‏:‏ هي الكثيرة المنضدة بعضها فوق بعض وقال يمان‏:‏ المدفونة وقال السدي المضروبة المنقوشة حتى صارت دراهم ودنانير، وقال الفراء المضعفة، فالقناطير ثلاثة والمقنطرة تسعة ‏{‏مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ‏}‏ وقيل سمي الذهب ذهبا لأنه يذهب ولا يبقى، والفضة لأنها تنفضُّ أي تتفرق ‏{‏وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ‏}‏ الخيل جمع لا واحد له من لفظه واحدها فرس، كالقوم والنساء ونحوهما، المسومة قال مجاهد‏:‏ هي المطهمة الحسان، وقال عكرمة‏:‏ تسويمها حسنها، وقال سعيد بن جبير‏:‏ هي الراعية، يقال‏:‏ أسام الخيل وسوَّمها قال الحسن وأبو عبيدة‏:‏ هي المعلمة من السيماء والسيماء العلامة، ثم منهم من قال‏:‏ سيماها الشبه واللون وهو قول قتادة وقيل‏:‏ الكي‏.‏

‏{‏وَالأنْعَامِ‏}‏ جمع النعم، وهي الإبل والبقر والغنم جمع لا واحد له من لفظه ‏{‏وَالْحَرْثِ‏}‏ يعني الزرع ‏{‏ذَلِكَ‏}‏ الذي ذكرنا ‏{‏مَتَاع الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ يشير إلى أنها متاع يفنى ‏{‏وَاللَّه عِنْدَه حُسْن الْمَآبِ‏}‏ أي المرجع، فيه تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 17‏]‏

‏{‏قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏15‏)‏ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ‏(‏16‏)‏ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ ‏(‏17‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى ‏{‏قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْد َرَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَار خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ‏}‏ قرأه العامة بكسر الراء، وروى أبو بكر عن عاصم بضم الراء، وهما لغتان كالعُدوان والعِدوان‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا يحيى بن سليمان، حدثني ابن وهب، حدثني مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة‏:‏ يا أهل الجنة فيقولون‏:‏ لبيك ربنا وسعديك والخير كله في يديك، فيقول‏:‏ هل رضيتم‏؟‏ فيقولون وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك‏؟‏ فيقول‏:‏ ألا أعطيكم أفضل من ذلك‏؟‏ فيقولون‏:‏ يا رب وأي شيء أفضل من ذلك‏؟‏ فيقول‏:‏ أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا‏"‏‏.‏

قوله تعالى ‏{‏وَاللَّه بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ‏}‏‏.‏

‏{‏الَّذِينَ يَقُولُونَ‏}‏ إن شئت جعلت محل الذين خفضًا ردًا على قوله ‏{‏لِلَّذِينَ اتَّقَوْا‏}‏ وإن شئت جعلته رفعا على الابتداء، ويحتمل أن يكون نصبا تقديره أعني الذين يقولون ‏{‏رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا‏}‏ صدقنا ‏{‏فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا‏}‏ استرها علينا وتجاوز عنا ‏{‏وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ‏}‏‏.‏

‏{‏الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ‏}‏ إن شئت نصبتها على المدح، وإن شئت خفضتها على النعت، يعني الصابرين في أداء الأمر وعن ارتكاب النهي، وعلى البأساء والضراء وحين البأس، والصادقين في إيمانهم، قال قتادة‏:‏ هم قوم صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وألسنتهم فصدقوا في السر والعلانية ‏{‏وَالْقَانِتِينَ‏}‏ المطيعين المصلين ‏{‏وَالْمُنْفِقِينَ‏}‏ أموالهم في طاعة الله ‏{‏وَالْمُسْتَغْفِرِين َبِالأسْحَارِ‏}‏ قال مجاهد وقتادة والكلبي‏:‏ يعني المصلين بالأسحار وعن زيد بن أسلم أنه قال‏:‏ هم الذين يصلون الصبح في الجماعة، وقيل بالسَّحَر لقربه من الصبُح وقال الحسن‏:‏ مدوا الصلاة إلى السحر ثم استغفروا، وقال نافع كان ابن عمر رضي الله عنه يحيي الليل ثم يقول‏:‏ يا نافع أسْحَرْنا‏؟‏ فأقول لا فيعاود الصلاة فإذا قلت‏:‏ نعم قعد يستغفر الله ويدعو حتى يصبح‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أبو محمد بن الحسن بن أحمد المخلدي، حدثنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج، أنا قتيبة بن سعيد أنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل فيقول‏:‏ أنا الملك أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له‏؟‏ من ذا الذي يسألني فأعطيه‏؟‏ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له‏"‏‏.‏

وحكي عن الحسن أن لقمان قال لابنه‏:‏ يا بني لا تكن أعجز من هذا الديك يصوِّت من الأسحار وأنت نائم على فراشك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏18‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏شَهِدَ اللَّه أَنَّه لا إِلَهَ إِلا هُوَ‏}‏ قيل‏:‏ نزلت هذه الآية في نصارى نجران‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ قدم حبران من أحبار الشام على النبي صلى الله عليه وسلم فلما أبصرا المدينة قال‏:‏ أحدهما لصاحبه ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي صلى الله عليه وسلم الذي يخرج في آخر الزمان‏؟‏ فلما دخلا عليه عرفاه بالصفة، فقالا له‏:‏ أنت محمد، قال‏:‏ نعم، قالا له‏:‏ وأنت أحمد‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أنا محمد وأحمد‏"‏ قالا له‏:‏ فإنا نسألك عن شيء فإن أخبرتنا به آمنا بك وصدقناك، فقال اسألا فقالا أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله عز وجل، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأسلم الرجلان‏.‏

قوله ‏{‏شَهِدَ اللَّهُ‏}‏ أي بين الله لأن الشهادة تبين، وقال مجاهد‏:‏ حكم الله وقيل‏:‏ علم الله وقيل‏:‏ أعلم الله أنه لا إله إلا هو‏.‏

قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ خلق الله الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة، وخلق الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة، فشهد بنفسه لنفسه قبل أن خلق الخلق حين كان ولم تكن سماء ولا أرض ولا بر ولا بحر فقال‏:‏ ‏{‏شَهِدَ اللَّه أَنَّه لا إِلَهَ إِلا هُوَ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالْمَلائِكَةُ‏}‏ أي وشهدت الملائكة قيل‏:‏ معنى شهادة الله الإخبار والإعلام، ومعنى شهادة الملائكة والمؤمنين الإقرار‏.‏ قوله تعالى ‏{‏وَأُولُو الْعِلْمِ‏}‏ يعني الأنبياء عليهم السلام‏.‏

وقال ابن كيسان يعني‏:‏ المهاجرين والأنصار وقال مقاتل‏:‏ علماء مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه‏.‏ قال السدي والكلبي‏:‏ يعني جميع علماء المؤمنين‏.‏ ‏{‏قَائِمًا بِالْقِسْطِ‏}‏ أي بالعدل‏.‏ ونظم هذه الآية شهد الله قائمًا بالقسط، نصب على الحال، وقيل‏:‏ نصب على القطع، ومعنى قوله ‏{‏قَائِمًا بِالْقِسْطِ‏}‏ أي قائما بتدبير الخلق كما يقال‏:‏ فلان قائم بأمر فلان، أي مدبر له ومتعهد لأسبابه، وقائم بحق فلان أي مجاز له فالله جل جلاله مدبر رازق مجاز بالأعمال‏.‏ ‏{‏لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيمُ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏19‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ‏}‏ يعني الدين المرضي الصحيح، كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏ ورضيت لكم الإسلام دينا ‏"‏ ‏(‏3- المائدة‏)‏ وقال ‏"‏ ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ‏"‏ ‏(‏85- آل عمران‏)‏ وفتح الكسائي الألف من أن الدين ردا على أن الأولى تقديره شهد الله أنه لا إله إلا هو وشهد أن الدين عند الله الإسلام، أو شهد الله أن الدين عند الله الإسلام بأنه لا إله إلا هو، وكسر الباقون الألف على الابتداء والإسلام هو الدخول في السلم وهو الانقياد والطاعة، يقال‏:‏ أسلم أي دخل في السلم واستسلم، قال قتادة في قوله تعالى ‏{‏إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ‏}‏ قال‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله والإقرار بما جاء من عند الله تعالى وهو دين الله الذي شرع لنفسه وبعث به رسله ودل عليه أولياءه ولا يقبل غيره ولا يجزي إلا به‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أنا أبو إسحاق الثعلبي، أنا أبو عمرو الفراتي، أنا أبو موسى عمران بن موسى، أنا الحسن بن سفيان، أنا عمار بن عمر بن المختار، حدثني أبي عن غالب القطان قال‏:‏ أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريبا من الأعمش وكنت أختلف إليه فلما كانت ذات ليلة أردت أن أنحدر إلى البصرة، فإذا الأعمش قائم من الليل يتهجد، فمر بهذه الآية ‏{‏شَهِدَ اللَّه أَنَّه لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَة وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيمُ‏}‏ ثم قال الأعمش‏:‏ وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة ‏{‏إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ‏}‏ قالها مرارا قلت لقد سمع فيها شيئا، فصليت معه وودعته، ثم قلت‏:‏ إني سمعتك تقرأ آية ترددها فما بلغك فيها‏؟‏ قال لي‏:‏ أوما بلغك ما فيها‏؟‏ قلت‏:‏ أنا عندك منذ سنتين لم تحدثني قال‏:‏ والله لا أحدثك بها إلى سنة، فكتبت على بابه ذلك اليوم وأقمت سنة، فلما مضت السنة قلت‏:‏ يا أبا محمد قد مضت السنة قال‏:‏ حدثني أبو وائل عن عبد الله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله‏:‏ إن لعبدي هذا عندي عهدا، وأنا أحق من وفى بالعهد، أدخلوا عبدي الجنة‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب َ‏}‏ قال الكلبي‏:‏ نزلت في اليهود والنصارى حين تركوا الإسلام أي وما اختلف الذين أوتوا الكتاب في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا من بعد ما جاءهم العلم، يعني بيان نعته في كتبهم، وقال الربيع‏:‏ إن موسى عليه السلام لما حضره الموت دعا سبعين رجلا من أحبار بني إسرائيل فاستودعهم التوراة واستخلف يوشع بن نون، فلما مضى القرن الأول والثاني والثالث وقعت الفرقة بينهم وهم الذين أوتوا الكتاب من أبناء أولئك السبعين حتى أهرقوا بينهم الدماء، ووقع الشر والاختلاف، وذلك من بعد ما جاءهم العلم يعني بيان ما في التوراة ‏{‏بَغْيًا بَيْنَهُمْ‏}‏ أي طلبا للملك والرياسة، فسلط الله عليهم الجبابرة وقال محمد بن جعفر بن الزبير‏:‏ نزلت في نصارى نجران ومعناها ‏{‏وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ‏}‏ يعني الإنجيل في أمر عيسى عليه السلام وفرقوا القول فيه إلا من بعد ما جاءهم العلم بأن الله واحد وأن عيسى عبده ورسوله ‏{‏بَغْيًا بَيْنَهُمْ‏}‏ أي للمعاداة والمخالفة ‏{‏وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيع الْحِسَابِ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏20‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ حَاجُّوكَ‏}‏ أي خاصموك يا محمد في الدين، وذلك أن اليهود والنصارى قالوا لسنا على ما سميتنا به يا محمد إنما اليهودية والنصرانية نسب، والدين هو الإسلام ونحن عليه فقال الله تعالى ‏{‏فَقُلْ أَسْلَمْت وَجْهِيَ لِلَّهِ‏}‏ أي انقدت لله وحده بقلبي ولساني وجميع جوارحي، وإنما خص الوجه لأنه أكرم الجوارح من الإنسان وفيه بهاؤه، فإذا خضع وجهه للشيء خضع له جميع جوارحه، وقال الفراء‏:‏ معناه أخلصت عملي لله ‏{‏وَمَنِ اتَّبَعَنِ‏}‏ أي ومن اتبعني أسلم كما أسلمت، وأثبت نافع وأبو عمرو الياء في قوله تعالى ‏{‏اتبعني‏}‏ على الأصل وحذفها الأخرون على الخط لأنها في المصحف بغير ياء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ‏}‏ يعني العرب ‏{‏أَأَسْلَمْتُمْ‏}‏ لفظه استفهام ومعناه أمر، أي أسلموا كما قال ‏"‏ فهل أنتم منتهون ‏"‏ ‏(‏91- المائدة‏)‏ أي انتهوا، ‏{‏فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا‏}‏ فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقال أهل الكتاب‏:‏ أسلمنا، فقال لليهود‏:‏ أتشهدون أن عيسى كلمة الله وعبده ورسوله قالوا‏:‏ معاذ الله، وقال النصارى‏:‏ أتشهدون أن عيسى عبد الله ورسوله‏؟‏ قالوا‏:‏ معاذ الله أن يكون عيسى عبدا فقال الله عز وجل ‏{‏وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ‏}‏ أي تبليغ الرسالة وليس عليك الهداية ‏{‏وَاللَّه بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ‏}‏ عالم بمن يؤمن وبمن لا يؤمن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏21‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ‏}‏ يجحدون بآيات الله يعني القرآن، وهم اليهود والنصارى ‏{‏وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ‏}‏ قرأ حمزة‏:‏ ويقاتلون الذين يأمرون، قال ابن جريج‏:‏ كان الوحي يأتي على أنبياء بني إسرائيل ولم يكن يأتيهم كتاب، فيذكِّرون قومهم فيُقتلون، فيقوم رجال ممن اتبعهم وصدقهم فيذكِّرون قومهم فيقتلون أيضا فهم الذين يأمرون بالقسط من الناس‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أنا أبو إسحاق الثعلبي، أنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن فنجويه الدينوري، أنا أبو نصر منصور بن جعفر النهاوندي، أنا أحمد بن يحيى بن الجارود، أنا محمد بن عمرو بن حيان، أنا محمد بن حمير، أنا أبو الحسن مولى بني أسد عن مكحول عن قبيصة بن ذؤيب الخزاعي عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال‏:‏ قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أي الناس أشد عذابا يوم القيامة‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر‏"‏ ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ‏}‏ إلى أن انتهى إلى قوله ‏{‏وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ‏}‏ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا في أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة واثنا عشر رجلا من عُبَّاد بني إسرائيل أمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر، فقتلوهم جميعا في آخر النهار في ذلك اليوم فهم الذين ذكرهم الله في كتابه وأنزل الآية فيهم‏"‏ ‏{‏فَبَشِّرْهُمْ‏}‏ أخبرهم ‏{‏بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ وجيع، وإنما أدخل الفاء على خبر إن وتقديره الذين يكفرون ويقتلون فبشرهم، لأنه لا يقال‏:‏ إن زيدا فقائم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 23‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏22‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ‏}‏ بطلت ‏{‏أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِوَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ‏}‏ وبطلان العمل في الدنيا أن لا يقبل وفي الآخرة ألا يجازى عليه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ‏}‏ يعني اليهود ‏{‏يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ‏}‏ اختلفوا في هذا الكتاب، فقال قتادة‏:‏ هم اليهود دُعوا إلى حكم القرآن فأعرضوا عنه‏.‏

وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية‏:‏ إن الله تعالى جعل القرآن حكمًا فيما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكم القرآن على اليهود والنصارى أنهم على غير الهدى فأعرضوا عنه، وقال الآخرون‏:‏ هو التوراة‏.‏

وروى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدارس على جماعة من اليهود، فدعاهم إلى الله عز وجل‏.‏ فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد‏:‏ على أي دين أنت يا محمد‏؟‏ فقال‏:‏ على ملة إبراهيم، قالا إن إبراهيم كان يهوديا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فهلمُّوا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم‏"‏ فأبيا عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏

وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا وامرأة من أهل خيبر زنيا وكان في كتابهم الرجم، فكرهوا رجمهما لشرفهما فيهم فرفعوا أمرهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجوا أن يكون عنده رخصة فحكم عليهما بالرجم فقال له النعمان بن أوفى وبحري بن عمرو‏:‏ جُرْتَ عليهما يا محمد ليس عليهما الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏بيني وبينكم التوراة‏"‏ قالوا‏:‏ قد أنصفتنا قال ‏"‏فمن أعلمكم بالتوراة‏"‏ قالوا رجل أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا، فأرسلوا إليه فقدم المدينة، وكان جبريل قد وصفه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏أنت ابن صوريا‏؟‏ ‏"‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ ‏"‏أنت أعلم اليهود‏"‏‏؟‏ قال‏:‏ كذلك يزعمون قال‏:‏ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من التوراة، فيها الرجم مكتوب، فقال له‏:‏ ‏"‏اقرأ‏"‏ فلما أتى على آية الرجم وضع كفه عليها وقرأ ما بعدها على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال عبد الله بن سلام‏:‏ يا رسول الله قد جاوزها فقام فرفع كفه عنها ثم قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اليهود بأن المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البينة رجما، وإن كانت المرأة حبلى تربص بها حتى تضع ما في بطنها، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باليهوديين فرجما، فغضب اليهود لذلك وانصرفوا فأنزل الله عز وجل ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ‏}‏ ‏{‏لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 25‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏24‏)‏ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّار إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ‏}‏ والغرور هو الإطماع فيما لا يحصل منه شيء ‏{‏مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ‏}‏ والافتراء اختلاق الكذب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ‏}‏ أي فكيف حالهم أو كيف يصنعون إذا جمعناهم ‏{‏لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ‏}‏ وهو يوم القيامة ‏{‏وَوُفِّيَتْ‏}‏ وفرت ‏{‏كُلّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ‏}‏ أي جزاء ما كسبت من خير أو شر ‏{‏وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ‏}‏ أي لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏26‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى ‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ‏}‏ قال قتادة ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يجعل ملك فارس والروم في أمته فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏ وقال ابن عباس رضي الله عنهما وأنس بن مالك رضي الله عنه لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وعد أمته ملك فارس والروم قال المنافقون واليهود‏:‏ هيهات هيهات من أين لمحمد صلى الله عليه وسلم ملك فارس والروم‏؟‏ وهم أعز وأمنع من ذلك ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم‏؟‏ فأنزل الله هذه الآية ‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ‏}‏ قيل‏:‏ معناه يا الله فلما حذف حرف النداء زيد الميم في آخره، وقال قوم‏:‏ للميم فيه معنى، ومعناها يا الله أُمَّنا بخير أي‏:‏ أقصدنا، حذف منه حرف النداء كقولهم‏:‏ هلم إلينا، كان أصله هل أُمَّ إلينا، ثم كثرت في الكلام فحذفت الهمزة استخفافا وربما خففوا أيضا فقالوا‏:‏ لا هُمَّ، قوله ‏{‏مَالِكَ الْمُلْكِ‏}‏ يعني يا مالك الملك أي مالك العباد وما ملكوا، وقيل يا مالك السموات والأرض، وقال الله تعالى في بعض الكتب‏:‏ ‏"‏أنا الله ملك الملوك، ومالك الملوك وقلوب الملوك ونواصيهم بيدي فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة وإن عصوني جعلتهم عليهم عقوبة فلا تشتغلوا بسب الملوك ولكن توبوا إليَّ أعطفهم عليكم ‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ‏}‏ قال مجاهد وسعيد بن جبير‏:‏ يعني ملك النبوة وقال الكلبي‏:‏ تؤتي الملك من تشاء محمدا وأصحابه ‏{‏وَتَنْزِع الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ‏}‏ أبي جهل وصناديد قريش وقيل‏:‏ تؤتي الملك من تشاء‏:‏ العرب وتنزع الملك ممن تشاء‏:‏ فارس والروم، وقال السدي تؤتي الملك من تشاء، آتى الله الأنبياء عليهم السلام وأمر العباد بطاعتهم ‏{‏وَتَنْزِع الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ‏}‏ نزعه من الجبارين وأمر العباد بخلافهم، وقيل تؤتي من تشاء‏:‏ آدم وولده وتنزع الملك ممن تشاء إبليس وجنوده‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتُعِزّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلّ مَنْ تَشَاء‏}‏ قال عطاء تعز من تشاء‏:‏ المهاجرين والأنصار وتذل من تشاء‏:‏ فارس والروم، وقيل تعز من تشاء محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى دخلوا مكة في عشرة آلاف ظاهرين عليها، وتذل من تشاء‏:‏ أبا جهل وأصحابه حتى حُزَّت رؤوسهم وألقوا في القليب، وقيل تعز من تشاء بالإيمان والهداية، وتذل من تشاء بالكفر والضلالة، وقيل تعز من تشاء بالطاعة وتذل من تشاء بالمعصية، وقيل تعز من تشاء بالنصر وتذل من تشاء بالقهر، وقيل تعز من تشاء بالغنى وتذل من تشاء بالفقر، وقيل تعز من تشاء بالقناعة والرضى وتذل من تشاء بالحرص والطمع ‏{‏بِيَدِكَ الْخَيْر‏}‏ أي بيدك الخير والشر فاكتفى بذكر أحدهما قال تعالى‏:‏ ‏"‏ سرابيل تقيكم الحر ‏"‏ ‏(‏81- النحل‏)‏ أي الحر والبرد فاكتفى بذكر أحدهما ‏{‏إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏27‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى ‏{‏تُولِج اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ‏}‏ أي تدخل الليل في النهار حتى يكون النهار خمس عشرة ساعة والليل تسع ساعاتٍ ‏{‏وَتُولِج النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ‏}‏ حتى يكون الليل خمس عشرة ساعة والنهار تسع ساعات، فما نقص من أحدهما زاد في الآخر ‏{‏وَتُخْرِج الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِج الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ‏}‏ قرأ أهل المدينة وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم ‏"‏الميِّت‏"‏ بتشديد الياء هاهنا وفي الأنعام ويونس والروم وفي الأعراف ‏"‏لبلد ميت‏"‏ وفي فاطر ‏"‏إلى بلد ميت‏"‏ زاد نافع ‏"‏ أو من كان ميتا فأحييناه ‏"‏ ‏(‏122- الأنعام‏)‏ و ‏"‏ لحم أخيه ميتا ‏"‏ ‏(‏12- الحجرات‏)‏ و ‏"‏ الأرض الميتة أحييناها ‏"‏ ‏(‏33- يس‏)‏ فشددها، والآخرون يخففونها، وشدد يعقوب ‏"‏ يخرِج الحي من الميت ‏"‏ ‏"‏لحم أخيه ميتا‏"‏ قال ابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة‏:‏ معنى الآية‏:‏ يخرج الحيوان من النطفة وهي ميتة، ويخرج النطفة من الحيوان‏.‏

وقال عكرمة والكلبي‏:‏ يخرج الحي من الميت أي الفرخ من البيضة ويخرج البيضة من الطير، وقال الحسن وعطاء‏.‏ يخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن، فالمؤمن حي الفؤاد، والكافر ميت الفؤاد قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ أوَ مَنْ كان ميتا فأحييناه ‏"‏ ‏(‏122- الأنعام‏)‏ وقال الزجاج‏:‏ يخرج النبات الغضَّ الطري من الحب اليابس، ويخرج الحب اليابس من النبات الحي النامي ‏{‏وَتَرْزُق مَنْ تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ من غير تضييق ولا تقتير‏.‏

أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد الحنفي، أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أنا أبو جعفر عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم الهاشمي، أنا محمد بن علي بن زيد الصائغ، أنا محمد بن أبي الأزهر، أنا الحارث بن عمير، أنا جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏إن فاتحة الكتاب وآية الكرسي والآيتين من آل عمران ‏{‏شهد الله‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إن الدين عند الله الإسلام‏}‏ و‏{‏قل اللهم مالك الملك‏}‏ إلى قوله ‏{‏بغير حساب‏}‏ معلقات، ما بينهن وبين الله عز وجل حجاب، قلن‏:‏ يا رب تهبطنا إلى أرضك وإلى من يعصيك‏؟‏ قال الله عز وجل‏:‏ بي حلفت لا يقرؤكن أحد من عبادي دبر كل صلاة إلا جعلت الجنة مثواه على ما كان منه ولأسكننه في حظيرة القدس ولنظرت إليه بعيني المكنونة كل يوم سبعين مرة ولقضيت له كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة ولأعذته من كل عدو وحاسد ونصرته منهم‏"‏ رواه الحارث عن عمرو وهو ضعيف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ‏(‏28‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ كان الحجاج بن عمرو بن أبي الحقيق وقيس بن زيد ‏{‏يظنون‏}‏ بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم، فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر‏:‏ اجتنبوا هؤلاء اليهود لا يفتنونكم عن دينكم، فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره وكانوا يظهرون المودة لكفار مكة‏.‏

وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل هذه الآية، ونهى المؤمنين عن مثل فعلهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ‏}‏ أي موالاة الكفار في نقل الأخبار إليهم وإظهارهم على عورة المسلمين ‏{‏فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ‏}‏ أي ليس من دين الله في شيء ثم استثنى فقال ‏{‏إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً‏}‏ يعني‏:‏ إلا أن تخافوا منهم مخافة، قرأ مجاهد ويعقوب ‏"‏تَقيَّة‏"‏ على وزن بقية لأنهم كتبوها بالياء ولم يكتبوها بالألف، مثل حصاة ونواة، وهي مصدر يقال تقيته تقاة وتقى تقية وتقوى فإذا قلت اتقيت كان المصدر الاتقاء، وإنما قال تتقوا من الاتقاء ثم قال‏:‏ تقاة ولم يقل اتقاء لأن معنى اللفظين إذا كان واحدا يجوز إخراج مصدر أحدهما على لفظ الآخر كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وتبتل إليه تبتيلا ‏"‏ ‏(‏8- المزمل‏)‏

ومعنى الآية‏:‏ أن الله تعالى نهى المؤمنين عن موالاة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم إلا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين، أو يكون المؤمن في قوم كفار يخافهم فيداريهم باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان دفعا عن نفسه من غير أن يستحل دما حراما أو مالا حراما، أو يظهر الكفار على عورة المسلمين، والتقية لا تكون إلا مع خوف القتل وسلامة النية، قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ‏"‏ ‏(‏106- النحل‏)‏ ثم هذا رخصة، فلو صبر حتى قتل فله أجر عظيم وأنكر قوم التقية اليوم قال معاذ بن جبل ومجاهد‏:‏ كانت التقية في بُدُوِّ الإسلام قبل استحكام الدين وقوة المسلمين، وأما اليوم فقد أعز الله الإسلام فليس ينبغي لأهل الإسلام أن يتقوا من عدوهم، وقال يحيى البكاء‏:‏ قلت لسعيد بن جبير في أيام الحجاج‏:‏ إن الحسن كان يقول لكم التقية باللسان والقلب مطمئن بالإيمان‏؟‏ فقال سعيد‏:‏ ليس في الإسلام تقية إنما التقية في أهل الحرب ‏{‏وَيُحَذِّرُكُم اللَّه نَفْسَهُ‏}‏ أي يخوفكم الله عقوبته على موالاة الكفار وارتكاب المنهي عنه ومخالفة المأمور ‏{‏وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 30‏]‏

‏{‏قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏29‏)‏ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏30‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ‏}‏ أي قلوبكم من مودة الكفار ‏{‏أَوْ تُبْدُوهُ‏}‏ موالاتهم قولا وفعلا ‏{‏يَعْلَمْه اللَّهُ‏}‏ وقال الكلبي‏:‏ إن تسروا ما في قلوبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من التكذيب أو تظهروه، بحربه وقتاله، يعلمه الله ويحفظه عليكم حتى يجازيكم به ثم قال‏:‏ ‏{‏وَيَعْلَمُ‏}‏ رفع على الاستئناف ‏{‏مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ‏}‏ يعني إذا كان لا يخفى عليه شيء في السموات ولا في الأرض فكيف تخفى عليه موالاتكم الكفار وميلكم إليهم بالقلب‏؟‏ ‏{‏وَاللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَجِد كُلّ نَفْسٍ‏}‏ نصب يوما بنزع حرف الصفة أي في يوم، وقيل‏:‏ بإضمار فعل أي‏:‏ اذكروا واتقوا يوم تجد كل نفس ‏{‏مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا‏}‏ لم يبخس منه شيء كما قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ ووجدوا ما عملوا حاضرا ‏"‏ ‏(‏49- الكهف‏)‏ ‏{‏وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ‏}‏ جعله بعضهم خبرا في موضع النصب أي تجد محضرا ما عملت من الخير والشر فتسر بما عملت من الخير وجعله بعضهم خيرا مستأنفا، دليل هذا التأويل‏:‏ قراءة ابن مسعود رضي الله عنهما ‏"‏وما عملت من سوء ودت لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَوَدّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا‏}‏ أي بين النفس ‏{‏وَبَيْنَهُ‏}‏ يعني وبين السوء ‏{‏أَمَدًا بَعِيدًا‏}‏ قال السدي‏:‏ مكانا بعيدا، وقال مقاتل‏:‏ كما بين المشرق والمغرب، والأمد الأجل والغاية التي ينتهي إليها، وقال الحسن‏:‏ يَسُرُّ أحدهم أن لا يلقى عمله أبدا، وقيل يود أنه لم يعمله ‏{‏وَيُحَذِّرُكُم اللَّه نَفْسَه وَاللَّه رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 32‏]‏

‏{‏قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏31‏)‏ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ‏(‏32‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُم اللَّه‏}‏ نزلت في اليهود والنصارى حيث قالوا‏:‏ نحن أبناء الله وأحباؤه‏.‏

وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قريش وهم في المسجد الحرام وقد نصبوا أصنامهم وعلقوا عليها بيض النعام وجعلوا في آذانها الشُّنوُف وهم يسجدون لها، فقال‏:‏ يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسماعيل‏"‏ فقالت له قريش إنما نعبدها حبًا لله ليقربونا إلى الله زلفى، فقال الله تعالى‏:‏ قل يا محمد إن كنتم تحبون الله وتعبدون الأصنام ليقربوكم إليه فاتبعوني يحببكم الله، فأنا رسوله إليكم وحجته عليكم، أي اتبعوا شريعتي وسنتي يحببكم الله فحب المؤمنين لله اتباعهم أمره وإيثار طاعته وابتغاء مرضاته، وحب الله للمؤمنين ثناؤه عليهم وثوابه لهم وعفوه عنهم فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّه غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏‏.‏

وقيل لما نزلت هذه الآية قال عبد الله بن أبي لأصحابه إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى ابن مريم فنزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا‏}‏ أعرضوا عن طاعتهما ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ لايُحِبّ الْكَافِرِينَ‏}‏ لا يرضى فعلهم ولا يغفر لهم‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا محمد بن سنان، أنا فليح، أنا هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى‏"‏ قالوا ومن يأبى‏؟‏ قال ‏"‏من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا محمد بن عبادة، أنا يزيد نا سُليم بن حيان وأثنى عليه، أنا سعيد بن ميناء قال‏:‏ حدثنا أو سمعت جابر بن عبد الله يقول‏:‏ جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم‏.‏ فقال بعضهم‏:‏ إنه نائم وقال بعضهم‏:‏ إن العين نائمة والقلب يقظان فقالوا‏:‏ إن لصاحبكم هذا مثلا فاضربوا له مثلا فقالوا‏:‏ مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة، فقالوا‏:‏ أوِّلوها له يفقهها، فقالوا‏:‏ أما الدار الجنة والداعي محمد صلى الله عليه وسلم فمن أطاع محمدا فقد أطاع الله ومن عصى محمدا فقد عصى الله ومحمد صلى الله عليه وسلم فرق بين الناس‏"‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 34‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏33‏)‏ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا‏}‏ الآية قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ قالت اليهود نحن من أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ونحن على دينهم فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏ يعني‏:‏ إن الله اصطفى هؤلاء بالإسلام وأنتم على غير دين الإسلام ‏{‏اصْطَفَى‏}‏ اختار، افتعل من الصفوة وهي الخالص من كل شيء ‏{‏آدَمَ‏}‏ أبو البشر ‏{‏وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ‏}‏ قيل‏:‏ أراد بآل إبراهيم وآل عمران إبراهيم عليه السلام وعمران أنفسهما كقوله تعالى ‏"‏ وبقية مما ترك آل موسى وآل هرون ‏"‏ ‏(‏248- البقرة‏)‏ يعني موسى وهارون‏.‏

وقال آخرون‏:‏ آل إبراهيم‏:‏ إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وكان محمد صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم عليه السلام، وأما آل عمران فقال مقاتل‏:‏ هو عمران بن يصهر بن فاهت بن لاوي بن يعقوب عليه السلام ‏{‏والد‏}‏ موسى وهارون‏.‏ وقال الحسن ووهب‏:‏ هو عمران بن أشهم بن أمون من ولد سليمان بن داود عليهما السلام والد مريم وعيسى‏.‏ وقيل‏:‏ عمران بن ماثان وإنما خص هؤلاء بالذكر لأن الأنبياء والرسل كلهم من نسلهم ‏{‏عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً‏}‏ اشتقاقها من ذرأ بمعنى خلق، وقيل‏:‏ من الذر لأنه استخراجهم من صلب آدم كالذر، ويسمى الأولاد والآباء ذرية، فالأبناء ذرية لأنه ذرأهم، والآباء ذرية لأنه ذرأ الأبناء منهم، قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ وآية لهم أنا حملنا ذريتهم ‏"‏ ‏(‏41- يس‏)‏ أي آباءهم

‏{‏ذُرِّيَّةً‏}‏ نصب على معنى واصطفى ذرية ‏{‏بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ‏}‏ أي بعضها من ولد بعض، وقيل بعضها من بعض في التناصر وقيل‏:‏ بعضها على دين بعض ‏{‏وَاللَّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏35‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَتِ امْرَأَة عِمْرَانَ‏}‏ وهي حنة بنت قافوذا أم مريم، وعمران هو عمران بن ماثان وليس بعمران أبي موسى عليه السلام، وبينهما ألف وثمانون سنة، وكان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم وقيل‏:‏ عمران بن أشهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبِّ إِنِّي نَذَرْت لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا‏}‏ أي جعلت الذي في بطني محررًا نذرًا مني لك ‏{‏فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيع الْعَلِيمُ‏}‏ والنذر‏:‏ ما يوجبه الإنسان على نفسه ‏{‏مُحَرَّرًا‏}‏ أي عتيقا خالصا لله مفرغا لعبادة الله ولخدمة الكنيسة لا أشغله بشيء من الدنيا، وكل ما أخلص فهو محرر يقال‏:‏ حررت العبد إذا أعتقته وخلصته من الرق‏.‏

قال الكلبي ومحمد بن إسحاق وغيرهما‏:‏ كان المحرر إذا حرر جعل في الكنيسة يقوم عليها ويكنسها ويخدمها ولا يبرحها حتى يبلغ الحلم، ثم يخير إن أحب أقام وإن أحب ذهب حيث شاء وإن أراد أن يخرج بعد التخيير لم يكن له ذلك، ولم يكن أحد من الأنبياء والعلماء إلا ومن نسله محررًا لبيت المقدس، ولم يكن محررًا إلا الغلمان، ولا تصلح له الجارية لما يصيبها من الحيض والأذى، فحررت أم مريم ما في بطنها، وكانت القصة في ذلك أن زكريا وعمران تزوجا أختين، وكانت أشياع بنت قافوذا أم يحيى عند زكريا، وكانت حنة بنت قافوذا أم مريم عند عمران، وكان قد أمسك عن حنة الولد حتى أسنت وكانوا أهل بيت من الله بمكان، فبينما هي في ظل شجرة بصرت بطائر يطعم فرخا فتحركت بذلك نفسها للولد فدعت الله أن يهب لها ولدًا وقالت‏:‏ اللهم لك علي إن رزقتني ولدًا أن أتصدق به على بيت المقدس فيكون من سدنته وخدمته، فحملت بمريم فحررت ما في بطنها، ولم تعلم ما هو فقال لها زوجها‏:‏ ويحك ما صنعت، أرأيت إن كان ما في بطنك أنثى لا تصلح لذلك‏؟‏ فوقعا جميعا في همٍّ من ذلك فهلك عمران وحنة حامل بمريم

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ‏(‏36‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏فَلَمَّا وَضَعَتْهَا‏}‏ أي ولدتها إذا هي جارية، والهاء في قوله ‏"‏وضعتها‏"‏ راجعة إلى النذير لا إلى ما ولد لذلك أنث ‏{‏قَالَتْ‏}‏ حنة وكانت ترجو أن يكون غلامًا ‏{‏رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى‏}‏ اعتذارًا إلى الله عز وجل ‏{‏وَاللَّه أَعْلَم بِمَا وَضَعَتْ‏}‏ بجزم التاء إخبارًا عن الله عز وجل وهي قراءة العامة وقرأ ابن عامر وأبو بكر ويعقوب وضعت برفع التاء جعلوها من كلام أم مريم ‏{‏وَلَيْسَ الذَّكَر كَالأنْثَى‏}‏ في خدمة الكنيسة والعباد الذين فيها لعورتها وضعفها وما يعتريها من الحيض والنفاس ‏{‏وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ‏}‏ ومريم بلغتهم العابدة والخادمة، وكانت مريم أجمل النساء في وقتها وأفضلهن ‏{‏وَإِنِّي أُعِيذُهَا‏}‏ أمنعها وأجيرها ‏{‏بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا‏}‏ أولادها ‏{‏مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ‏}‏ فالشيطان الطريد اللعين، والرجيم المرمي بالشهب‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا أبو اليمان، أنا شعيب عن الزهري، حدثني سعيد بن المسيب، قال‏:‏ قال أبو هريرة رضي الله عنه‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد، فيستهل الصبي صارخا من الشيطان غير مريم وابنها‏"‏ ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا أبو اليمان، أنا شعيب، عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه بأصبعه حين يولد غير عيسى بن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏‏.‏

قوله ‏{‏فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ‏}‏ أي تقبل الله مريم من حنة مكان المحرر، وتقبل بمعنى قبل ورضي، والقبول مصدر قبل يقبل قبولا مثل الولوع والوزوع ولم يأت غير هذه الثلاثة‏.‏ وقيل‏:‏ معنى التقبل التكفل في التربية والقيام بشأنها ‏{‏وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا‏}‏ معناه‏:‏ وأنبتها فنبتت نباتًا حسنًا وقيل هذا مصدر على غير اللفظ وكذلك قوله ‏{‏فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ‏}‏ ومثله شائع كقولك تكلمت كلاما وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما ‏{‏فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ‏}‏ أي سلك بها طريق السعداء ‏{‏وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا‏}‏ يعني سوَّى خلقها من غير زيادة ولا نقصان فكانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في العام ‏{‏وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا‏}‏ قال أهل الأخبار‏:‏ أخذت حنة مريم حين ولدتها فلفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد فوضعتها عند الأحبار، أبناء هرون وهم يومئذ يلون من بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة فقالت لهم‏:‏ دونكم هذه النذيرة، فتنافس فيها الأحبار لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم فقال لهم زكريا‏:‏ أنا أحقكم بها، عندي خالتها، فقالت له الأحبار‏:‏ لا نفعل ذلك، فإنها لو تركت لأحق الناس لها لتركت لأمها التي ولدتها لكنا نقترع عليها فتكون عند من خرج سهمه، فانطلقوا وكانوا تسعة وعشرين رجلا إلى نهر جار، قال السدي‏:‏ هو نهر الأردن فألقوا اقلامهم في الماء على أن من ثبت قلمه في الماء فصعد فهو أولى بها‏.‏

وقيل‏:‏ كان على كل قلم اسم واحد منهم‏.‏

وقيل‏:‏ كانوا يكتبون التوراة فألقوا أقلامهم التي كانت بأيديهم في الماء فارتز قلم زكريا فارتفع فوق الماء وانحدرت أقلامهم ورسبت في النهر، قاله محمد بن إسحاق وجماعة‏.‏

وقيل‏:‏ جرى قلم زكريا مصعدًا إلى أعلى الماء وجرت أقلامهم بجري الماء‏.‏

وقال السدي وجماعة‏:‏ بل ثبت قلم زكريا وقام فوق الماء كأنه في طين، وجرت أقلامهم مع جرية الماء فذهب بها الماء فسهمهم وقرعهم زكريا، وكان زكريا رأس الأحبار ونبيهم فذلك قوله تعالى ‏{‏وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا‏}‏ قرأ حمزة والكسائي وعاصم بتشديد الفاء فيكون زكريا في محل النصب أي ضمنها الله زكريا وضمها إليه بالقرعة، وقرأ الآخرون بالتخفيف فيكون زكريا في محل الرفع أي ضمها زكريا إلى نفسه وقام بأمرها، وهو زكريا بن آذن بن مسلم بن صدوق، من أولاد سليمان بن داود عليهما السلام‏.‏

وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم‏:‏ زكريا مقصورا والآخرون يمدونه‏.‏

فلما ضم زكريا مريم إلى نفسه بنى لها، بيتا واسترضع لها وقال محمد بن إسحاق ضمها إلى خالتها أم يحيى حتى إذا شبت وبلغت مبلغ النساء بنى لها محرابا في المسجد، وجعل بابه في وسطها لا يرقى إليها إلا بالسلم مثل باب الكعبة لا يصعد إليها غيره، وكان يأتيها بطعامها وشرابها ودهنها كل يوم ‏{‏كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ‏}‏ وأراد بالمحراب الغرفة، والمحراب أشرف المجالس ومقدمها، وكذلك هو من المسجد، ويقال للمسجد أيضا محراب قال المبرد‏:‏ لا يكون المحراب إلا أن يرتقى إليه بدرجة، وقال الربيع بن أنس‏:‏ كان زكريا إذا خرج يغلق عليها سبعة أبواب فإذا دخل عليها غرفتها ‏{‏وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا‏}‏ أي فاكهة في غير حينها، فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف ‏{‏قَالَ يَا مَرْيَم أَنَّى لَكِ هَذَا‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ معناه من أين لك هذا‏؟‏ وأنكر بعضهم عليه، وقال‏:‏ معناه من أي جهة لك هذا‏؟‏ لأن ‏"‏أنى‏"‏ للسؤال عن الجهة وأين للسؤال عن المكان ‏{‏قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏}‏ أي من قطف الجنة، قال الحسن‏:‏ حين ولدت مريم لم تلقم ثديا قط، كان يأتيها رزقها من الجنة، فيقول لها زكريا‏:‏ أنى لك هذا‏؟‏ قالت‏:‏ هو من عند الله تكلمت وهي صغيرة ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَرْزُق مَنْ يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ ثم أصابت بني إسرائيل أزمة وهي على ذلك من حالها حتى ضعف زكريا عن حملها فخرج على بني إسرائيل فقال يا بني إسرائيل‏:‏ تعلمون والله لقد كبرت سني وضعفت عن حمل مريم بنت عمران فأيكم يكفلها بعدي‏؟‏ قالوا‏:‏ والله لقد جهدنا وأصابنا من السنة ما ترى، فتدافعوها بينهم ثم لم يجدوا من حملها بدا، فتقارعوا عليها بالأقلام فخرج السهم على رجل نجار من بني إسرائيل يقال له‏:‏ يوسف بن يعقوب وكان ابن عم مريم فحملها، فعرفت مريم في وجهه شدة مؤنة ذلك عليه فقالت له‏:‏ يا يوسف أحسن بالله الظن فإن الله سيرزقنا، فجعل يوسف يرزق بمكانها منه، فيأتيها كل يوم من كسبه بما يصلحها فإذا أدخله عليها في الكنيسة أنماه الله، فيدخل عليها زكريا فيرى عندها فضلا من الرزق، ليس بقدر ما يأتيها به يوسف، فيقول‏:‏ يا مريم أنى لك هذا قالت‏:‏ هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب‏.‏

قال أهل الأخبار فلما رأى ذلك زكريا قال‏:‏ إن الذي قدر على أن يأتي مريم بالفاكهة في غير حينها من غير سبب لقادر على أن يصلح زوجتي ويهب لي ولدا في غير حينه من الكبر فطمع في الولد، وذلك أن أهل بيته كانوا قد انقرضوا وكان زكريا قد شاخ وأيس من الولد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 39‏]‏

‏{‏هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ‏(‏38‏)‏ فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏39‏)‏‏}‏‏.‏

قال الله تعالى ‏{‏هُنَالِكَ‏}‏ أي عند ذلك ‏{‏دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ‏}‏ فدخل المحراب وأغلق الباب وناجى ربه ‏{‏قَالَ رَبِّ‏}‏ أي يا رب ‏{‏هَبْ لِي‏}‏ أعطني ‏{‏مِنْ لَدُنْكَ‏}‏ أي من عندك ‏{‏ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً‏}‏ أي ولدا مباركًا تقيًا صالحًا رضيًا، والذرية تكون واحدًا وجمعًا ذكرًا وأنثى، وهو هاهنا واحد، بدليل قوله عز وجل ‏"‏ فهب لي من لدنك وليًا ‏"‏ ‏(‏5- مريم‏)‏ وإنما قال‏:‏ طيبة لتأنيث لفظ الذرية ‏{‏إِنَّكَ سَمِيع الدُّعَاءِ‏}‏ أي سامعه، وقيل مجيبه، كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إني آمنت بربكم فاسمعون ‏"‏ ‏(‏25- يس‏)‏ أي فأجيبوني

‏{‏فَنَادَتْه الْمَلائِكَةُ‏}‏ قرأ حمزة والكسائي فناداه بالياء، والآخرون بالتاء، فمن قرأ بالتاء فلتأنيث لفظ الملائكة وللجمع مع أن الذكور إذا تقدم فعلهم وهم جماعة كان التأنيث فيها أحسن كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قالت الأعراب ‏"‏ ‏(‏14- الحجرات‏)‏ وعن إبراهيم قال‏:‏ كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما يُذَكِّر الملائكة في القرآن‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ إنما نرى عبد الله اختار ذلك خلافا للمشركين في قولهم الملائكة بنات الله تعالى، وروى الشعبي أن ابن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ إذا اختلفتم في التاء والياء فاجعلوها ياءً وذكِّروا القرآن‏.‏

وأراد بالملائكة هاهنا‏:‏ جبريل عليه السلام وحده كقوله تعالى في سورة النحل ‏"‏ ينزل الملائكة‏"‏ يعني جبريل بالروح‏)‏ بالوحي، ويجوز في العربية أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع كقولهم‏:‏ سمعت هذا الخبر من الناس، وإنما سمع من واحد، نظيره قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ الذين قال لهم الناس ‏"‏ ‏(‏173- آل عمران‏)‏ يعني نعيم بن مسعود ‏"‏إن الناس‏"‏ يعني أبا سفيان بن حرب، وقال المفضل بن سلمة‏:‏ إذا كان القائل رئيسا يجوز الإخبار عنه بالجمع لاجتماع أصحابه معه، وكان جبريل عليه السلام رئيس الملائكة وقلَّ ما يبعث إلا ومعه جمع، فجرى على ذلك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ‏}‏ أي في المسجد وذلك أن زكريا كان الحبر الكبير الذي يقرب القربان، فيفتح باب المذبح فلا يدخلون حتى يأذن لهم في الدخول، فبينما هو قائم يصلي في المحراب، يعني في المسجد عند المذبح يصلي، والناس ينتظرون أن يأذن لهم في الدخول فإذا هو برجل شاب عليه ثياب بيض ففزع منه فناداه، وهو جبريل عليه السلام يا زكريا ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ‏}‏ قرأ ابن عامر وحمزة ‏{‏إن الله‏}‏ بكسر الألف على إضمار القول تقديره‏:‏ فنادته الملائكة فقالت ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ‏}‏ وقرأ الآخرون بالفتح بإيقاع النداء عليه، كأنه قال‏:‏ فنادته الملائكة بأن الله يبشرك، قرأ حمزة يبشرك وبابه بالتخفيف كل القرآن إلا قوله‏:‏ ‏"‏ فبم تبشرون ‏"‏ ‏(‏54- الحجر‏)‏ فإنهم اتفقوا على تشديدها ووافقه الكسائي هاهنا في الموضعين وفي سبحان والكهف وعسق ووافق ابن كثير وأبو عمرو في ‏"‏عسق‏"‏ والباقون بالتشديد، فمن قرأ بالتشديد فهو من بشر يبشر تبشيرا، وهو أعرب اللغات وأفصحها‏.‏ دليل التشديد قوله تعالى ‏"‏ فبشر عباد ‏"‏ الزمر- 17‏)‏ ‏"‏ وبشرناه بإسحاق ‏"‏ ‏(‏112- الصافات‏)‏ ‏"‏قالوا بشرناك بالحق‏"‏ ‏(‏55- الحجر‏)‏ وغيرها من الآيات، ومن خفف فهو من بشر يبشر وهي لغة تهامة، وقرأه ابن مسعود رضي الله عنه ‏{‏بِيَحْيَى‏}‏ هو اسم لا يُجر لمعرفته وللزائد في أوله مثل يزيد ويعمر، وجمعه يحيون، مثل موسون وعيسون واختلفوا في أنه لم سُمي يحيى‏؟‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ لأن الله أحيا به عقر أمه، قال قتادة‏:‏ لأن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان وقيل‏:‏ لأن الله تعالى أحياه بالطاعة حتى لم يعص ولم يهم بمعصية ‏{‏مُصَدِّقًا‏}‏ نصب على الحال ‏{‏بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ‏}‏ يعني عيسى عليه السلام، سمي عيسى كلمة الله لأن الله تعالى قال له‏:‏ كن من غير أب فكان، فوقع عليه اسم الكلمة لأنه بها كان، وقيل‏:‏ سمي كلمة لأنه يهتدي به كما يهتدى بكلام الله تعالى، وقيل‏:‏ هي بشارة الله تعالى مريم بعيسى عليه السلام بكلامه على لسان جبريل عليه السلام‏.‏ وقيل‏:‏ لأن الله تعالى أخبر الأنبياء بكلامه في كتبه أنه يخلق نبيا بلا أب، فسماه كلمة لحصوله بذلك الوعد‏.‏ وكان يحيى عليه السلام أول من آمن بعيسى عليه السلام وصدقه، وكان يحيى عليه السلام أكبر من عيسى بستة أشهر، وكانا ابني الخالة، ثم قتل يحيى قبل أن يرفع عيسى عليه السلام‏.‏ وقال أبو عبيدة ‏{‏بكلمة من الله‏}‏ أي بكتاب من الله وآياته، تقول العرب‏:‏ أنشدني كلمة فلان أي قصيدته‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَيِّدًا‏}‏ فعيل من ساد يسود وهو الرئيس الذي يتبع وينتهي إلى قوله، قال المفضل‏:‏ أراد سيدا في الدين‏.‏ قال الضحاك‏:‏ السيد الحسن الخلق‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ السيد الذي يطيع ربه عز وجل‏.‏ وقال سعيد بن المسيب‏:‏ السيد الفقيه العالم، وقال قتادة‏:‏ سيد في العلم والعبادة والورع، وقيل‏:‏ الحليم الذي لا يغضبه شيء‏.‏ قال مجاهد‏:‏ الكريم على الله تعالى، وقال الضحاك‏:‏ السيد التقي، قال سفيان الثوري‏:‏ الذي لا يحسد وقيل‏:‏ الذي يفوق قومه في جميع خصال الخير، وقيل‏:‏ هو القانع بما قسم الله له‏.‏ وقيل‏:‏ السخي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏من سيدكم يا بني سلمة‏"‏‏؟‏ قالوا‏:‏ جد بن قيس على أنّا نبخِّله قال‏:‏ ‏"‏وأي داء أدوأ من البخل، لكن سيدكم عمرو بن الجموح‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ الحصور أصله من الحصر وهو الحبس‏.‏ والحصور في قول ابن مسعود رضي الله عنه وابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة رضي الله عنهم وعطاء والحسن‏:‏ الذي لا يأتي النساء ولا يقربهن، وهو على هذا القول فعول بمعنى فاعل يعني أنه يحصر نفسه عن الشهوات وقيل‏:‏ هو الفقير الذي لا مال له فيكون الحصور بمعنى المحصور يعني الممنوع من النساء‏.‏ قال سعيد بن المسيب‏:‏ كان له مثل هدبة الثوب وقد تزوج مع ذلك ليكون أغض لبصره‏.‏ وفيه قول آخر‏:‏ أن الحصور هو الممتنع من الوطء مع القدرة عليه‏.‏ واختار قوم هذا القول لوجهين ‏{‏أحدهما‏}‏‏:‏ لأن الكلام خرج مخرج الثناء، وهذا أقرب إلى استحقاق الثناء، و‏{‏الثاني‏}‏‏:‏ أنه أبعد من إلحاق الآفة بالأنبياء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ‏(‏40‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى ‏{‏قَالَ رَبِّ‏}‏ أي يا سيدي، قال لجبريل عليه السلام، هذا قول الكلبي وجماعة، وقيل‏:‏ قاله لله عز وجل ‏{‏أَنَّى يَكُونُ‏}‏ أين يكون ‏{‏لِي غُلامٌ‏}‏ أي ابن ‏{‏وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ‏}‏ هذا من المقلوب أي وقد بلغت الكبر وشخت كما يقال بلغني الجهد أي أنا في الجهد، وقيل‏:‏ معناه وقد الكبر وأدركني وأضعفني‏.‏ قال الكلبي‏:‏ كان زكريا يوم بُشِّر بالولد ابن ثنتين وتسعين سنة، وقيل‏:‏ ابن تسع وتسعين سنة‏.‏ وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ كان ابن عشرين ومائة سنة، وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ‏}‏ أي عقيم لا تلد يقال‏:‏ رجل عاقر وامرأة عاقر، وقد عقر بضم القاف يعقر عقرًا، وعقارة ‏{‏قَالَ كَذَلِكَ اللَّه يَفْعَل مَا يَشَاء‏}‏ فإن قيل لم قال زكريا بعدما وعده الله تعالى‏:‏ ‏{‏أنى يكون لي غلام‏}‏ أكان شاكا في وعد الله وفي قدرته‏؟‏ قيل‏:‏ إن زكريا لما سمع نداء الملائكة جاءه الشيطان فقال‏:‏ يا زكريا إن الصوت الذي سمعت ليس هو من الله إنما هو من الشيطان، ولو كان من الله لأوحاه إليك كما يوحي إليك في سائر الأمور، فقال ذلك دفعًا للوسوسة، قاله عكرمة والسدي، وجواب آخر‏:‏ وهو أنه لم يشك في وعد الله إنما شك في كيفيته أي كيف ذلك‏؟‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 42‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ ‏(‏41‏)‏ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى ‏{‏قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً‏}‏ أي علامة أعلم بها وقت حمل امرأتي فأزيد في العبادة شكرا لك ‏{‏قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ‏}‏ تكف عن الكلام ‏{‏ثَلاثَةَ أَيَّام‏}‏ وتقبل بكليتك على عبادتي، لا أنه حبس لسانه عن الكلام، ولكنه نهي عن الكلام وهو صحيح سوي، كما قال في سورة مريم الآية ‏(‏10‏)‏ ‏{‏أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاث َلَيَالٍ سَوِيًّا‏}‏ يدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَبِّحْ بِالْعَشِي ِّوَالإبْكَارِ‏}‏ فأمره بالذكر ونهاه عن كلام الناس‏.‏

وقال أكثر المفسرين‏:‏ عقل لسانه عن الكلام مع الناس ثلاثة أيام، وقال قتادة‏:‏ أمسك لسانه عن الكلام عقوبة له لسؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه فلم يقدر على الكلام ثلاثة أيام، وقوله ‏{‏إِلا رَمْزًا‏}‏ أي إشارة، والإشارة قد تكون باللسان وبالعين وباليد، وكانت إشارته بالإصبع المسبحة، وقال الفراء‏:‏ قد يكون الرمز باللسان من غير أن يبين، وهو الصوت الخفي أشبه الهمس، وقال عطاء‏:‏ أراد به صوم ثلاثة أيام لأنهم كانوا أذا صاموا لم يتكلموا إلا رمزا ‏{‏وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ‏}‏ قيل‏:‏ المراد بالتسبيح الصلاة، والعشي ما بين زوال الشمس إلى غروب الشمس ومنه سمي صلاة الظهر والعصر صلاتي العشي، والإبكار ما بين صلاة الفجر إلى الضحى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ‏}‏ يعني جبريل ‏{‏يَا مَرْيَم إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ‏}‏ اختارك ‏{‏وَطَهَّرَك‏}‏ قيل من مسيس الرجال وقيل من الحيض والنفاس، قال السدي‏:‏ كانت مريم لا تحيض، وقيل‏:‏ من الذنوب ‏{‏وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ‏}‏ قيل‏:‏ على عالمي زمانها وقيل‏:‏ على جميع نساء العالمين في أنها ولدت بلا أب، ولم يكن ذلك لأحد من النساء، وقيل‏:‏ بالتحرير في المسجد ولم تحرر أنثى‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا أحمد بن رجاء، أخبرنا النضر عن هشام أخبرنا أبي قال‏:‏ سمعت عبد الله بن جعفر قال‏:‏ سمعت عليا رضي الله عنه يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة رضي الله عنهما ‏"‏ ورواه وكيع وأبو معاوية عن هشام بن عروة وأشار وكيع إلى السماء والأرض‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا آدم، أنا شعبة، عن عمرو بن مرة عن أبي موسى الأشعري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري، أخبرنا جدي عبد الرحمن بن عبد الصمد البزار، أخبرنا محمد بن زكريا العُذافري، أخبرنا إسحاق الديري، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وآسية امرأة فرعون‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ‏(‏43‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى ‏{‏يَا مَرْيَم اقْنُتِي لِرَبِّكِ‏}‏ قالت لها الملائكة شفاهًا أي أطيعي ربك، وقال مجاهد أطيلي القيام في الصلاة لربك والقنوت الطاعة وقيل‏:‏ القنوت طول القيام قال الأوزاعي‏:‏ لما قالت لها الملائكة ذلك قامت في الصلاة حتى ورمت قدماها وسالت دما وقيحا ‏{‏وَاسْجُدِي وَارْكَعِي‏}‏ قيل‏:‏ إنما قدم السجود على الركوع لأنه كان كذلك في شريعتهم وقيل‏:‏ بل كان الركوع قبل السجود في الشرائع كلها وليس الواو للترتيب بل للجمع، ويجوز أن يقول الرجل‏:‏ رأيت زيدا وعمرا، وإن كان قد رأى عمرا قبل زيد ‏{‏مَعَ الرَّاكِعِينَ‏}‏ ولم يقل مع الراكعات ليكون أعم وأشمل فإنه يدخل فيه الرجال والنساء وقيل‏:‏ معناه مع المصلين في الجماعة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 46‏]‏

‏{‏ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ‏(‏44‏)‏ إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ‏(‏45‏)‏ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏46‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ‏}‏ يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏ذلك‏}‏ الذي ذكرت من حديث زكريا ويحيى ومريم وعيسى ‏{‏من أنباء الغيب‏}‏ أي من أخبار الغيب ‏{‏نوحيه إليك‏}‏ رد الكناية إلى ذلك فلذلك ذكره ‏{‏وَمَا كُنْتَ‏}‏ يا محمد ‏{‏لَدَيْهِمْ إْذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ‏}‏ سهامهم في الماء للاقتراع ‏{‏أَيُّهُمْ يَكْفُل مَرْيَمَ‏}‏ يحضنها ويربيها ‏{‏وَمَا كُنْت لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ‏}‏ في كفالتها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَة يَا مَرْيَم إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْه اسْمُه الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَمَ‏}‏ إنما قال‏:‏ اسمه رد الكناية إلى عيسى واختلفوا في أنه لم سمي مسيحا، منهم من قال‏:‏ هو فعيل بمعنى المفعول يعني أنه مسح من الأقذار وطهر من الذنوب، وقيل‏:‏ لأنه مسح بالبركة، وقيل‏:‏ لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن، وقيل مسحه جبريل بجناحه حتى لم يكن للشيطان عليه سبيل، وقيل‏:‏ لأنه كان مسيح القدم لا أخمص له، وسمي الدجال مسيحا لأنه كان ممسوح إحدى العينين، وقال بعضهم هو فعيل بمعنى الفاعل، مثل عليم وعالم‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما سمي مسيحا لأنه ما مسح ذا عاهة إلا برأ، وقيل‏:‏ سمي بذلك لأنه كان يسيح في الأرض ولا يقيم في مكان، وعلى هذا القول تكون الميم فيه زائدة‏.‏ وقال إبراهيم النخعي‏:‏ المسيح الصديق‏.‏ ويكون المسيح بمعنى الكذاب وبه سمي الدجال والحرف من الأضداد ‏{‏وَجِيهًا‏}‏ أي شريفا رفيعا ذا جاه وقدر ‏{‏فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ‏}‏ عند الله

‏{‏وَيُكَلِّم النَّاسَ فِي الْمَهْدِ‏}‏ صغيرا قبل أوان الكلام كما ذكره في سورة مريم قال‏:‏ ‏"‏ إني عبد الله آتاني الكتاب ‏"‏ الآية- 30‏)‏ وحكي عن مجاهد قال‏:‏ قالت مريم‏:‏ كنت إذا خلوت أنا وعيسى حدثني وحدثته فإذا شغلني عنه إنسان سبح في بطني وأنا أسمع قوله ‏{‏وَكَهْلا‏}‏ قال مقاتل‏:‏ يعني إذا اجتمع قبل أن يرفع إلى السماء وقال الحسين بن الفضل‏:‏ ‏{‏وكهلا‏}‏ بعد نزوله من السماء‏.‏ وقيل‏:‏ أخبرها أنه يبقى حتى يكتهل، وكلامه بعد الكهولة إخباره عن الأشياء المعجزة، وقيل‏:‏ ‏{‏وَكَهْلا‏}‏ نبيًا بشرها بنبوة عيسى عليه السلام وكلامه في المهد معجزة وفي الكهولة دعوة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏وَكَهْلا‏}‏ أي حليمًا‏.‏ والعرب تمدح الكهولة لأنها الحالة الوسطى في احتناك السن واستحكام العقل وجودة الرأي والتجربة ‏{‏وَمِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ أي‏:‏ هو من العباد الصالحين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 49‏]‏

‏{‏قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏47‏)‏ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ ‏(‏48‏)‏ وَرَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏49‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏قَالَتْ رَبِّ‏}‏ يا سيدي تقوله لجبريل‏.‏ وقيل‏:‏ تقول لله عز وجل ‏{‏أَنَّى يَكُون لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ‏}‏ يصبني رجل، قالت ذلك تعجبًا إذ لم تكن جرت العادة بأن يولد ولد لا أب له ‏{‏قَال َكَذَلِكِ اللَّه يَخْلُق مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا‏}‏ أي كون الشيء ‏{‏فَإِنَّمَا يَقُول لَه كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ كما يريد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُعَلِّمُه الْكِتَابَ‏}‏ قرأ أهل المدينة وعاصم ويعقوب بالياء لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكِ اللَّه يَخْلُق مَا يَشَاءُ‏}‏ وقيل‏:‏ رده على قوله‏:‏ ‏{‏إن الله يبشرك‏}‏ ‏{‏وَيُعَلِّمُهُ‏}‏ وقرأ الآخرون بالنون على التعظيم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏الْكِتَابَ‏}‏ أي الكتابة والخط ‏{‏وَالْحِكْمَةَ‏}‏ العلم والفقه ‏{‏وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ‏}‏ علمه الله التوراة والإنجيل

‏{‏وَرَسُولا‏}‏ أي ونجعله رسولا ‏{‏إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ قيل‏:‏ كان رسولا في حال الصبا، وقيل‏:‏ إنما كان رسولا بعد البلوغ، وكان أول أنبياء بني إسرائيل يوسف وآخرهم عيسى عليهما السلام فلما بعث قال‏:‏ ‏{‏أَنِّي‏}‏ قال الكسائي‏:‏ إنما فتح لأنه أوقع الرسالة عليه، وقيل‏:‏ معناه بأني ‏{‏قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ‏}‏ علامة ‏{‏مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏ تصدق قولي وإنما قال‏:‏ بآية وقد أتى بآيات لأن الكل دل على شيء واحد وهو صدقه في الرسالة، فلما قال ذلك عيسى عليه السلام لبني إسرائيل قالوا‏:‏ وما هي قال‏:‏ ‏{‏أَنِّي‏}‏ قرأ نافع بكسر الألف على الاستئناف، وقرأ الباقون بالفتح على معنى بإني ‏{‏أَخْلُق‏}‏ أي أصور وأقدر ‏{‏لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ‏}‏ قرأ أبو جعفر كهيئة الطائر هاهنا وفي المائدة، والهيئة الصورة المهيأة من قولهم‏:‏ هيأت الشيء إذا قدرته وأصلحته ‏{‏فَأَنْفُخ فِيهِ‏}‏ أي في الطير ‏{‏فَيَكُون طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏ قراءة الأكثرين بالجمع لأنه خلق طيرا كثيرا، وقرأ أهل المدينة ويعقوب فيكون طائرًا على الواحد هاهنا‏.‏ وفي سورة المائدة ذهبوا إلى نوع واحد من الطير لأنه لم يخلق غير الخفاش وإنما خص الخفاش، لأنه أكمل الطير خلقًا لأن لها ثديًا وأسنانًا وهي تحيض‏.‏ قال وهب‏:‏ كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا، ليتميز فعل الخلق من فعل الخالق،

وليعلم أن الكمال لله عز وجل ‏{‏وَأُبْرِئ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ‏}‏ أي أشفيهما وأصححهما، واختلفوا في الأكمه، قال ابن عباس وقتادة‏:‏ هو الذي ولد أعمى، وقال الحسن والسدي‏:‏ هو الأعمى‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ هو الأعمش‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل، ‏{‏وَالأبْرَصَ‏}‏ الذي به وضح، وإنما خص هذين لأنهما داءان عياءان، وكان الغالب في زمن عيسى عليه السلام الطب، فأراهم المعجزة من جنس ذلك‏.‏ قال وهب‏:‏ ربما اجتمع عند عيسى عليه السلام من المرضى في اليوم الواحد خمسون ألفا من أطاق منهم أن يبلغه بلغه ومن لم يطق مشى إليه عيسى عليه السلام وكان يداويهم بالدعاء على شرط الإيمان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما قد أحيا أربعة أنفس، عازر وابن العجوز، وابنة العاشر، وسام بن نوح، فأما عازر فكان صديقا له فأرسلت أخته إلى عيسى عليه السلام‏:‏ أن أخاك عازر يموت وكان بينه وبينه مسيرة ثلاثة أيام فأتاه هو وأصحابه فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيام، فقال لأخته‏:‏ انطلقي بنا إلى قبره، فانطلقت معهم إلى قبره، فدعا الله تعالى فقام عازر وودكه يقطر فخرج من قبره وبقي وولد له‏.‏

وأما ابن العجوز مر به ميتًا على عيسى عليه السلام على سرير يحمل فدعا الله عيسى فجلس على سريره، ونزل عن أعناق الرجال، ولبس ثيابه، وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله فبقي وولد له‏.‏

وأما ابنة العاشر كان أبوها رجلا يأخذ العشور ماتت له بنت بالأمس، فدعا الله عز وجل باسمه الأعظم فأحياها الله تعالى وبقيت بعد ذلك زمنا وولد لها‏.‏ وأما سام بن نوح عليه السلام فإن عيسى عليه السلام جاء إلى قبره فدعا باسم الله الأعظم فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه خوفا من قيام الساعة، ولم يكونوا يشيبون في ذلك الزمان فقال‏:‏ قد قامت القيامة‏؟‏ قال‏:‏ لا ولكن دعوتك باسم الله الأعظم، ثم قال له‏:‏ مت قال‏:‏ بشرط أن يعيذني الله من سكرات الموت فدعا الله ففعل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُنَبِّئُكُمْ‏}‏ وأخبركم ‏{‏بِمَا تَأْكُلُونَ‏}‏ مما لم أعاينه ‏{‏وَمَا تَدَّخِرُونَ‏}‏ ترفعونه ‏{‏فِي بُيُوتِكُمْ‏}‏ حتى تأكلوه وقيل‏:‏ كان يخبر الرجل بما أكل البارحة وبما يأكل اليوم وبما ادخره للعشاء‏.‏

وقال السدي‏:‏ كان عيسى عليه السلام في الكتَّاب يحدث الغلمان بما يصنع آباؤهم ويقول للغلام‏:‏ انطلق فقد أكل أهلك كذا وكذا، ورفعوا لك كذا وكذا، فينطلق الصبي إلى أهله ويبكي عليهم حتى يعطوه ذلك الشيء فيقولون‏:‏ من أخبرك بهذا‏؟‏‏.‏ فيقول‏:‏ عيسى فحبسوا صبيانهم عنه وقالوا‏:‏ لا تلعبوا مع هذا الساحر فجمعوهم في بيت فجاء عيسى عليه السلام يطلبهم فقالوا‏:‏ ليسوا هاهنا، فقال‏:‏ فما في هذا البيت‏؟‏ قالوا خنازير، قال عيسى كذلك يكونون ففتحوا عليهم فإذا هم خنازير ففشى ذلك في بني إسرائيل فهمت به بنو إسرائيل، فلما خافت عليه أمه حملته على حُمير لها وخرجت هاربة منهم إلى أهل مصر، وقال قتادة‏:‏ إنما هذا في المائدة وكان خوانا ينزل عليهم أينما كانوا كالمن والسلوى، وأمروا أن لا يخونوا ولا يخبؤا لغد فخانوا وخبؤا فجعل عيسى يخبرهم بما أكلوا من المائدة وبما أدخروا منها فمسخهم الله خنازير‏.‏

قوله تعالى ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ‏}‏ الذي ذكرت ‏{‏لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 52‏]‏

‏{‏وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏50‏)‏ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏51‏)‏ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَمُصَدِّقًا‏}‏ عطف على قوله ورسولا ‏{‏لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأحِلَّ لَكُم ْبَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ‏}‏ من اللحوم والشحوم، وقال أبو عبيدة‏:‏ أراد بالبعض الكل يعني‏:‏ كل الذي حرم عليكم، وقد يذكر البعض ويراد به الكل كقول لبيد‏:‏

تَرَّاَكُ أَمْكِنةٍ إذا لم أَرْضَهَا *** أو تَرْتَبِطْ بعضَ النُّفُوسِ حِمامُها

يعني‏:‏ كل النفوس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏ يعني ما ذكر من الآيات وإنما وحدها لأنها كلها جنس واحد في الدلالة على رسالته ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُم الْكُفْرَ‏}‏ أي وجد قاله الفراء، وقال أبو عبيدة‏:‏ عرف، وقال مقاتل‏:‏ رأى ‏{‏مِنْهُم الْكُفْرَ‏}‏ وأرادوا قتله استنصر عليهم و ‏{‏قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ‏}‏ قال السدي‏:‏ كان سبب ذلك أن عيسى عليه السلام لما بعثه الله عز وجل إلى بني إسرائيل وأمره بالدعوة نفته بنو إسرائيل وأخرجوه، فخرج هو وأمه يسيحان في الأرض، فنزل في قرية على رجل فأضافهما وأحسن إليهما، وكان لتلك المدينة جبار متعد فجاء ذلك الرجل يوما مهتمًا حزينًا فدخل منزله ومريم عند امرأته فقالت لها مريم‏:‏ ما شأن زوجك أراه كئيبا، قالت‏:‏ لا تسأليني، قالت‏:‏ أخبريني لعل الله يفرج كربته، قالت‏:‏ إن لنا ملكا يجعل على كل رجل منا يومًا أن يطعمه وجنوده ويسقيهم الخمر فإن لم يفعل عاقبه، واليوم نوبتنا وليس لذلك عندنا سعة، قالت‏:‏ فقولي له لا يهتم فإني آمر ابني فيدعو له فيكفى ذلك، فقالت مريم لعيسى عليه السلام في ذلك، فقال عيسى‏:‏ إن فعلت ذلك وقع شر، قالت‏:‏ فلا تبال فإنه قد أحسن إلينا وأكرمنا، قال عيسى عليه السلام فقولي له إذا اقترب ذلك فاملأ قدورك وخوابيك ماًء ثم أعلمني ففعل ذلك، فدعا الله تعالى عيسى عليه السلام، فتحول ماء القدور مرقًا ولحمًا وماء الخوابي خمرًا لم ير الناس مثله قط فلما جاء الملك أكل فلما شرب الخمر قال‏:‏ من أين هذا الخمر قال‏:‏ من أرض كذا، قال الملك فإن خمري من تلك الأرض وليست مثل هذه قال‏:‏ هي من أرض أخرى، فلما خلط على الملك واشتد عليه قال‏:‏ فأنا أخبرك عندي غلام لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه، وإنه دعا الله فجعل الماء خمرًا وكان للملك ابن يريد أن يستخلفه فمات قبل ذلك بأيام، وكان أحب الخلق إليه، فقال‏:‏ إن رجلا دعا الله حتى جعل الماء خمرا ليستجاب له حتى يحيي ابني، فدعا عيسى فكلمه في ذلك فقال عيسى‏:‏ لا تفعل فإنه إن عاش وقع شر، فقال الملك‏:‏ لا أبالي أليس أراه قال عيسى‏:‏ إن أحييته تتركوني وأمي نذهب حيث نشاء، قال‏:‏ نعم فدعا الله فعاش الغلام فلما رآه أهل مملكته قد عاش تبادروا بالسلاح، وقالوا‏:‏ أكلنا هذا حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف علينا ابنه فيأكلنا كما أكل أبوه فاقتتلوا فذهب عيسى وأمه فمر بالحواريين وهم يصطادون السمك، فقال‏:‏ ما تصنعون‏؟‏ فقالوا‏:‏ نصطاد السمك قال‏:‏ أفلا تمشون حتى نصطاد الناس، قالوا‏:‏ ومن أنت قال‏:‏ أنا عيسى بن مريم عبد الله ورسوله من أنصاري إلى الله فآمنوا به وانطلقوا معه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ‏}‏ قال السدي وابن جريج‏:‏ مع الله تعالى تقول العرب‏:‏ الذود إلى الذود أبل أي مع الذود وكما قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ‏"‏ ‏(‏2- النساء‏)‏ أي مع أموالكم‏.‏ وقال الحسن وأبو عبيدة‏:‏ إلى بمعنى في أي من أعواني في الله أي في ذات الله وسبيله، وقيل إلى في موضعه معناه من يضم نصرته إلى نصرة الله لي واختلفوا في الحواريين قال مجاهد والسدي‏:‏ كانوا صيادين يصطادون السمك سموا حواريين لبياض ثيابهم، وقيل‏:‏ كانوا ملاحين‏.‏ وقال الحسن‏:‏ كانوا قصارين سموا بذلك لأنهم كانوا يحورون الثياب أي يبيضونها‏.‏ وقال عطاء‏:‏ سلمت مريم عيسى عليه السلام إلى أعمال شتى فكان آخر ما دفعته إلى الحواريين، وكانوا قصارين وصباغين فدفعته إلى رئيسهم ليتعلم منه فاجتمع عنده ثياب وعرض له سفر، فقال لعيسى‏:‏ إنك قد تعلمت هذه الحرفة وأنا خارج في سفر لا أرجع إلى عشرة أيام وهذه ثياب الناس مختلفة الألوان، وقد أعلمت على كل واحد منها بخيط على اللون الذي يصبغ به فيجب أن تكون فارغًا منها وقت قدومي، وخرج فطبخ عيسى جبًا واحدًا على لون واحد وأدخل جميع الثياب وقال‏:‏ كوني بإذن الله على ما أريد منك، فقدم الحواري والثياب كلها في الجب، فقال‏:‏ ما فعلت‏؟‏ فقال‏:‏ فرغت منها، قال‏:‏ أين هي‏؟‏ قال‏:‏ في الجب، قال‏:‏ كلها، قال‏:‏ نعم قال‏:‏ لقد أفسدت تلك الثياب فقال‏:‏ قم فانظر، فأخرج عيسى ثوبا أحمر، وثوبا أصفر، وثوبا أخضر، إلى أن أخرجها على الألوان التي أرادها، فجعل الحواري يتعجب فعلم أن ذلك من الله، فقال للناس‏:‏ تعالوا فانظروا فآمن به هو وأصحابه فهم الحواريون، وقال الضحاك‏:‏ سموا حواريين لصفاء قلوبهم وقال ابن المبارك‏:‏ سموا به لما عليهم من أثر العبادة ونورها، وأصل الحور عند العرب شدة البياض، يقال‏:‏ رجل أحور وامرأة حوراء أي شديدة بياض العين، وقال الكلبي وعكرمة‏:‏ الحواريون هم الأصفياء وهم كانوا أصفياء عيسى عليه السلام، وكانوا اثني عشر رجلا قال روح بن القاسم‏:‏ سألت قتادة عن الحواريين قال‏:‏ هم الذين يصلح لهم الخلافة، وعنه أنه قال‏:‏ الحواريون هم الوزراء، وقال الحسن‏:‏ الحواريون الأنصار، والحواري الناصر، والحواري في كلام العرب خاصة الرجل الذي يستعين به فيما ينوبه‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا الحميدي، أخبرنا سفيان، أخبرنا محمد بن المنكدر، قال‏:‏ سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول‏:‏ ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم الخندق فانتدب الزبير ثم ندبهم فانتدب الزبير فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏إن لكل نبي حواريًا وحواريي الزبير‏"‏‏.‏

قال سفيان الحواري الناصر، قال معمر‏:‏ قال قتادة‏:‏ إن الحواريين كلهم من قريش أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وحمزة وجعفر وأبو عبيدة بن الجراح وعثمان بن مظعون وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام رضي الله عنهم أجمعين‏.‏

‏{‏قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْن أَنْصَار اللَّهِ‏}‏ أعوان دين الله ورسوله ‏{‏آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ‏}‏ يا عيسى ‏{‏بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏}‏‏.‏